بقلم يامن أحمد حمدي
كانت تفسّر بإنّها عقاب من الآلهة.. وتفسّر اليوم بأنّها عقاب من الله، تسبّب ملايين الموتى والمشوّهين جسديّا ونفسيّا، أدّت إلى فناء قبائل وإبادة شعوب وإخلاء قرى ومدن وتخريب حضارات بأكملها.. تثير الرّعب في القلوب، وتعقبها أحيانا موجة من التطرّف الديني أو الإلحاد،.. عابرة للقارات وللثقافات وللعوالم المتقدمة والنامية والمتخلفة، وللفصول وللمناخات، وللجبال والغابات والصحراء، لا تخشى المعالجات الرعوانية والأدوية العصرية وتتجاوز كل طرق الوقاية. لها تاريخ دمويّ رهيب: فلقد قتلت في الثلاث قرون الأخيرة أكثر ممّا قتلت الحروب في نفس الفترة، رغم أنّ الحروب تدوم سنوات والأوبئة لا تتجاوز بضعة أشهر إلاّ نادرًا..
قد يكون سببها الإنسان نفسه أو الحيوان أو التقاء الإنسان بالحيوان، تنتجها الأزمات والمجاعات والحروب، في لحظات معيّنة من التاريخ، وربّما يتمّ خلقها في مختبرات الأدوية نفسها. تهاجر خلسة في أجساد المسافرين والطيور والجرذان والطعام والمياه والهواء، كانت تتنقل ببطء سير السفن الشراعيّة والقوافل البريّة، والآن ترتحل بسرعة الطائرات،.. تتجاوز المحاجر الصحيّة والمراقبة الطبيّة وتراوغ العلاج في الموانئ والمطارت.
كان الموبؤون يعزلون في أديرة وفي خيام في شبه معتقلات خارج المدن وتحرق جثثهم أو تدفن من دون طقوس دينية ومن دون شواهد قبور.. والآن يوضعون في مستشفيات خاصة ويحجبون عن بقية المرضى وبقية العائلة وبقية العالم، وتخضع أجساد الموتى منهم للتشريح ثم التذويب أو دفنهم بطقوس طبية متشددة.
كانت تظهر في شكل قروح وحمّى وإسهال على أجساد المرضى، والآن صارت تكمن في أجسامهم لأيّام حتى تتجاوز رقابة المعابر، إنّها تطوّر من ذكائها ومن قدرتها على الاختباء. كائنات مجهرية أحادية الخلية، و يمكن لصنتيمتر مربع أن يضم مليون كائن منها، يبلغ حجمها 1 نانمليمتر (ملم على مليون)، وتقتل جسما بمليارات الخلايا وتهدد أرضا مساحتها 500 مليون كلم مربع.
سجّلت كتب التاريخ أوّل أفظع وباء في سنة 165م، سمي بالطاعون الأنطوني أو مرض الجدري كما وصفه العلماء حديثا .. واستمر الى حدود سنة 180 ميلادي داخل حدود الإمبراطورية الرومانية ونقلا عن المؤرخ الروماني “كاسيوس ديو” تسبب هذا الوباء الغريب في وفاة ما لا يقل عن ألفي شخص يوميا وأسفر عن وفاة خمسة ملايين شخص تقريبا.
وثاني أكبر وباء كان في سنة 541 م، حين ضرب الطاعون الامبراطورية البيزنطيّة وسمي بالوباء الأول أو “طاعون جستنيان” على اسم الإمبراطور جستنيان الأول، وحسب بروكوبيوس، المؤرخ البيزنطي، سجل أن الطاعون كان يقتل ما يصل إلى 10،000 شخص يوميا في المدينة، و في المجمل حصد الوباء حياة ما بين 25 إلى 50 مليون شخص واستمر في التفشي حتى حوالي العام 767 ميلادي.
أشهر وباء في العصر الوسيط وقع بين سنتي 1347 و1352 حيث ضرب الطاعون مجددا أوروبا قادما على متن سفن تجارية من الشرق وأطلق عليه حينها الموت الأسود أو الموت العظيم.
ويعتبر أول وباء حقيقي على الأرض تسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان أوروبا، ومن المرجح أنه قتل ما يقدر بنحو 75 إلى 200 مليون شخصا في القرون الوسطى وفقا للمؤرخ فيليب دايليدر.
موجة الطاعون عادت للظهور بداية من سنة 1855 حيث سجل المرض ظهوره في مدينة يونان الصينية لينتشر منها نحو كل من الهند وهونغ كونغ وبعض مناطق أستراليا ومنغوليا.
استمر هذا الوباء في الانتشار لمدة عقود وأسفر عن وفاة ما لا يقل عن اثني عشر مليون شخص كان من ضمنهم عشرة ملايين حالة وفاة في الهند لوحدها.
في الماضي القريب أيضا و تحديدا سنة 1918 ضربت الانفلونزا الأسبانية وهي نوع خبيث ومد من فيروس الإنفلونزا H1N1. حيث انتشرت الانفلوانزا القاتلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم وخلفت ما بين 50 إلى 100 مليون شخصا توفوا جراء الإصابة بالمرض أي ما يعادل ضعف المتوفين في الحرب العالمية الأول.
ثم ظهر فيروس إيبولا في افريقيا، في شبهة اختبار طبي فاشل سنة 1995، ثم ظهرت الجمرة الخبيثة بشمال أمريكا في شبهة إرهاب بيولوجي سنة 2001، ثم فيروس سارس في شبهة تلوث إشعاعي في آسيا سنة 2004، ثم الأنفلونزا في شبهة أمراض حيوانية بالطيور وبالخنازير سنتي 2007و 2008.. وأخيرا وليس آخرا فيروس كورونا.. وتستمر الحروب بين أصغر خلقه وأعقل خلقه..!!