هدى القرماني
هذا التقرير من ضمن سلسلة تقارير أنجزت حول موضوع العقوبات البديلة في تونس بالشراكة مع “معهد صحافة الحرب والسلام”
أكثر من 5 سنوات مرّت على تأسيس مكتب المصاحبة بسوسة، تجربة نموذجية الأولى من نوعها في تونس في إطار اصلاح المنظومة السجنية وتحقيق العدالة الجزائية في بلادنا وتأسيس بدائل للعقوبات السالبة للحرية التي أثبتت عدم جدواها في تحقيق الردع وعدم العود للجريمة.
تجربة سبقتنا اليها عديد الدول وسنّت لها التشريعات وأوجدت لها الفضاءات والآليات والامكانيات التي تسمح بتحقيقها وانجاحها. وان مثّل نظام المصاحبة في بعض التجارب المقارنة عقوبة تقضي بها المحكمة بدل العقوبة السجنية فإنها في تونس ليست الا آلية لتنفيذ العقوبة البديلة والتي أساسها العمل لفائدة المصلحة العامة.
ويختلف مفهوم “المصاحبة” حسب فقهاء القانون عن مفهوم السراح الشرطي وعن العمل لفائدة المصلحة العامة لكن في تونس ذهب الخبراء والمتدخلون في هذا المجال إلى خلق أنموذج تونسي يضمّ الثلاثة مفاهيم في ذات الوقت.
وظهرت هذه العبارة كمفهوم لأول مرّة يعتمد المراقبة والمتابعة في الفضاء المفتوح ويركّز بالأساس على العقوبة البديلة في بريطانيا منذ القرون الوسطى، لكن كمصطلح فالواضح والمتعارف عليه أنه ظهر في سنة 1841 بولاية بوسطن الأمريكية ثم انتشرت المصاحبة بعد ذلك في أورويا، التي شهدت طفرة كبيرة في تطور المصاحبة وآلياتها في فترة التسعينات من القرن الماضي، ثم في آسيا وافريقيا.
وكان جون اوقيستيس John Augustus صاحب مصنع للأحذية ببوسطن أوّل من أطلق عبارة ” Probation” بعد تكفله بمراقبة ومرافقة أحد المتهمين المدمنين على الخمر والذي لم يرتدع بأحكام المحكمة لعدّة مرّات وتمّكن من إصلاحه ومن تبني 2000 شخص آخرين لاحقا.
وتعتبر تونس من أوّل الدول العربية التي استخدمت المصاحبة كتجربة نموذجية رائدة حتى أنّ هيثم الشبلي، نائب المديرة الإقليمية للمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي للشرق الأوسط وشمال افريقيا، صنّف مكتب المصاحبة بسوسة أحسن وأفضل مكتب في افريقيا وفقا لما أفادنا به قيس الفريوي قاضي تنفيذ العقوبات ورئيس مكتب المصاحبة بسوسة.
وأشار الفريوي إلى أن مصطلح “المصاحبة” وان كان مستحدثا في سياستنا العقابية الا انه كمفهوم يعتمد المراقبة والمتابعة نجد له جذورا منذ تاريخ صدور قانون عدد 89 لسنة 1999 والمحدث لعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة كعقوبة بديلة للعقوبة السجنية.
ويعرّف محدّثنا “المصاحبة” في تونس على أنها جملة الآليات المتمثلة في المراقبة والمتابعة والتأطير والتأهيل وتهذيب السلوك بغاية إعادة ادماج المحكوم عليه في المجتمع وذلك تنفيذا لحكم قضائي في الفضاء المفتوح يوازي فيه يوم سجن ساعتي عمل لفائدة المصلحة العامة تحت رقابة مكتب المصاحبة الذي يشرف عليه قاضي تنفيذ العقوبات.
ووفقا لتقريرها الوطني الدوري والذي استعرضته لدى المفوضية السامية لحقوق الإنسان بتاريخ 03 فيفري 2017 أكدت اللجنة الوطنية الدائمة للتنسيق واعداد وتقديم التقارير ومتابعة التوصيات في مجال حقوق الإنسان في تونس أنّه تمّ في إطار برنامج دعم اصلاح القضاء تركيز منظومة المصاحبة بتونس في انتظار إرساء نظام قانوني متكامل لها وتعمل هذه المنظومة على تحقيق عدة أهداف أهمها تمكين القضاة من ملاءمة العقوبة مع طبيعة الجريمة المرتكبة وشخصية الجاني من جهة والتقليص من ظاهرة الاكتظاظ داخل السجون وتحسين ظروف الاحتجاز وفقا للمعايير الدولية والتشريع الوطني من جهة اخرى والحد من نسبة العود وإبقاء المودعين داخل محيطهم الأسري والاجتماعي.
تعريف مكتب المصاحبة بسوسة
تقول يسرى دعلول المحامية والعضو بالفرع الجهوي للمحامين بسوسة أن مكتب المصاحبة هو نموذج تطبيقي يعكس عمل فريق متكامل تجذرت فيه إرادة البناء المؤسسي والانخراط في عملية الإصلاح بمشاركة كافة المتدخلين.
وقد أنشئ هذا المكتب ضمن برنامج اصلاح المنظومة القضائية بتونس وفي إطار المشروع النموذجي لمكافحة ظاهرة الاكتظاظ داخل السجون.
وتعود فكرة تركيز مكاتب مصاحبة في تونس إلى استنتاجات وملحوظات للخبير السويسري أندري فالتون حول الاكتظاظ المتزايد داخل المؤسسات السجنية وجاء ذلك في إطار مبادرة مشتركة بين وزارة العدل والبعثة الإقليمية بتونس التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر بتاريخ 2009.
وانطلق المكتب في نشاطه الفعلي بتاريخ 23 جانفي 2013 ويتكون من قاضي تنفيذ العقوبات وهو رئيس المكتب وأعوان المصاحبة وهم المرافقون العدليون ويتبعون أساسا مصلحة السجون والإصلاح ويشرف عليه الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بسوسة تحت اشراف وزير العدل رأسا.
وقامت عدّة أطراف بدعمه ومنها وزارة العدل والمكتب الدولي لمكافحة المخدرات وانفاذ القانون في السفارة الأمريكية في تونس ) (INL والمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي.
وقد انطلقت تجربة المصاحبة في تونس إثر عدّة لقاءات وجلسات عمل وبحث وزيارة ميدانية إلى سويسرا للاطلاع على التجربة السويسرية باعتبارها تجربة رائدة ومتقدمة ولملامسة مفهوم المصاحبة هناك.
وللغرض قام الخبير السويسري جاك موني Jacque Monney في نوفمبر 2012 بتكوين مجموعة ضمت قاضي تنفيذ العقوبات بسوسة و4 موظفين من مكتب العمل الاجتماعي بسجن المسعدين مثّلوا فيما بعد مكتب المصاحبة.
الإطار القانوني لمكتب المصاحبة: إطار قانوني غير صريح
يشير قيس الفريوي قاضي تنفيذ العقوبات بسوسة في حديثه معنا إلى أنه لا يمكن القول بأن هناك غياب كليّ لنصّ تشريعي يخوّل لنا فتح مثل هذه التجربة النموذجية بل توجد ضوابط قانونية متمثلّة في الفصل 336 من مجلة الإجراءات الجزائية.
ويقول الفصل 336 الذي نقّح بالقانون عدد 92 لسنة 2002 أنّه ” يتولى قاضي تنفيذ العقوبات التابع له مقر إقامة المحكوم عليه أو التابع للمحكمة الابتدائية الصادر بدائرتها الحكم إذا لم يكن للمحكوم عليه مقر إقامة بالبلاد التونسية متابعة تنفيذ عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة بمساعدة مصالح السجون”.
ويوضحّ الفريوي أنّ ما ينقص الفصل 336 هو فقط التنصيص على تسمية “المصاحبة” اذ يعمل في الواقع قاضي تنفيذ العقوبات بمساعدة مرافقين عدليين يتبعون مصالح السجون تحت سقف مكتب المصاحبة لذلك فنحن نعمل ضمن إطار قانوني ولكن ليس صريحا وفق قوله.
4 نطاقات يعمل عليها مكتب المصاحبة
يعمل مكتب المصاحبة بسوسة على أربع نطاقات حيث عمل في مرحلة أولى على المحكومين مباشرة بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة ثمّ توسّع نشاط المكتب في مرحلة ثانية ليشمل المسرحين شرطيا وفي مرحلة ثالثة الأطفال الخاضعين للمتابعة والمرافقة من قبل المكتب وذلك في طور التحقيق ثمّ عمل على مستوى رابع وهو المراقبة والاختبار للرشّد بقرار قضائي.
وبالنسبة للأحكام الصادرة رأسا عن المحكمة فينّص الفصل 15 مكرّر من القانون عدد 89 لسنة 1999 والذي نقّح بالقانون عدد 68 لسنة 2009 على أنّ “للمحكمة إذا قضت بالسجن النافذ لمدة أقصاها عام واحد أن تستبدل بنفس الحكم تلك العقوبة بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة وذلك دون أجر ولمدة لا تتجاوز ستمائة ساعة بحساب ساعتين عن كل يوم سجن.”
ويقع تنفيذ هذا الحكم في بحر 18 شهرا وإذا لم يقع تنفيذ الحكم في تلك المدة فتتمّ العودة الى العقوبة الأصلية.
ويشترط لاستبدال السجن بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة أن يكون المتهم حاضرا بالجلسة وأن لا يكون عائدا وأن يثبت للمحكمة من خلال ظروف الفعل الذي وقع من أجله التتبع جدوى هذه العقوبة للحفاظ على إدماج المتهم في الحياة الاجتماعية.
وعلى المحكمة اعلام المتهم بحقه في رفض استبدال عقوبة السجن بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة وتسجيل جوابه.
وكان قاضي تنفيذ العقوبات في البداية ينفّذ قرار المحكمة بمفرده الا انه في مرحلة موالية تمّ تعيين مرافقين عدليين له داخل مكتب المصاحبة يتبعون أساسا مصالح السجون لمساعدته في القيام بعمله.
تطورت مهام مكتب المصاحبة لتشمل المتمتعين بالسراح الشرطي وتمّ ادماجهم في العمل لفائدة المصلحة العامة تحت مراقبة ومتابعة أعوان المصاحبة وهو ما يعتبر مستحدثا في هذه التجربة وما جعل المهتمين بشأن اصلاح نظام العدالة من منظمات دولية وغيرها يركزون اهتمامهم على التجربة التونسية النموذجية والمختلفة للاطلاع عليها وعلى مدى نجاحها حسب قول محدثنا متابعا أنها نجحت وننتظر قريبا الوعاء القانوني لها.
ويضيف الجديد لدينا في تونس أنّنا طوعنا الفصل 356 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي نقّح بالقانون عدد 73 لسنة 2001 والذي يقول يمنح السراح الشرطي بقرار من وزير العدل بناء على موافقة لجنة السراح الشرطي. ويمنح قاضي تنفيذ العقوبات السراح الشرطي في الحالات وحسب الإجراءات التي خصّه بها القانون” (أضيفت بالقانون عدد 92 لسنة 2002 المؤرخ في 29 أكتوبر 2002).
وكذلك الفصل 357 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي يقول يمكن أن يفرض القرار على الشخص المتمتع بالسراح الشرطي إما الإقامة المحروسة إذا لم يكن محكوما عليه بتحجير الإقامة أو المراقبة الإدارية، أو وضعه وجوبا بمصلحة عمومية أو بمؤسسة خاصة، أو إخضاعه في آن واحد إلى الوسيلتين المشار إليهما. ويجب أن لا تزيد مدّة الإقامة المحروسة أو الوضع بالمصلحة أو المؤسسة عن مدة العقاب الباقية التي يتم قضاؤها وقت السراح.
ويوّضح محدّثنا أنّ هناك حلقة مفقودة بين الفضاء المغلق أي السجن والفضاء المفتوح المتمثّل في المجتمع فجاء مكتب المصاحبة ليحتل هذا الموقع بين الفضاءين قبل عودة المحكوم عليه لبيئته فنقوم بمراقبته ومتابعته.
ويواصل اذا تمكنا من كسب ثقة السجين فقد نجحنا بنسبة 70 أو 80 بالمائة ليبقى العمل مع المحكوم عليه خارج السجن تحت مراقبة مكتب المصاحبة وضمن العمل لفائدة المصلحة العامة.
ويشدّد الفريوي على أنّ العمل الكبير في حالات السراح الشرطي يكون داخل السجن إذ يقوم بحكم صلاحياته بزيارة المكان ومقابلة من يمكنهم التمتع بهذا الاجراء لاختيار من تتوفر فيهم شروط الردع والإصلاح.
ويمنح الفصل 353 من مجلة الإجراءات الجزائية الحق في التمتع بالسراح الشرطي لكل سجين محكوم عليه بعقوبة واحدة أو عدة عقوبات سالبة للحرية إذا برهن بسيرته داخل السجن عن ارتداعه أو إذا ما ظهر سراحه مفيدا لصالح المجتمع.
كما يضبط القانون سقف السراح الشرطي بـأن لا تتجاوز محكومية السجين 8 أشهر ويمكن للمحكوم عليه لأول مرة وفقا للفصل 354 من المجلة أن يدخل في هذا النظام بعد قضاء نصف مدة العقوبة أو العقوبات أما إذا كان عائدا فيجب أن يقضي ثلثي المدة السجنية.
أمّا المستوى الثالث الذي استحدثه مكتب المصاحبة بسوسة فيتمثّل في متابعة الأطفال ومراقبتهم قبل صدور الحكم فيكون العمل مع قاضي تحقيق الأطفال قبل أن يختم أبحاثه ويصدر قراره ومع قاضي الأطفال قبل اصدار الحكم.
ويعمل المرافقون العدليون في متابعتهم للأطفال بالتنسيق مع مركز الدفاع والادماج الاجتماعي بسوسة لتواجد الاخصائيين النفسيين والاجتماعيين ولخبرة المركز في مجال مراقبة الأطفال.
وفيما يتعلّق بالمراقبة والاختبار على مستوى الرشّد فتكون بقرار من الدائرة الجنائية قبل إصدارها للحكم وذلك بإخضاع، من ترى أنه شخص زلّت به القدم وحفاظا على مستقبله، لفترة اختبار ومتابعة من طرف مكتب المصاحبة. وفي صورة ملاحظة تحسن في سلوك ذلك الشخص ينجز المرافقون العدليون تقريرهم لقاضي تنفيذ العقوبات الذي ينجز بدوره تقريره النهائي بوصفه رئيس المكتب ويحيله على رئيس الدائرة وسيكون لهذا التقرير الأثر على الحكم أو القرار الذي ستتخذه الدائرة في حقّ المحكوم عليه.
أكثر من 1600 شخص استفادوا من برنامج المصاحبة
أفاد قاضي تنفيذ العقوبات قيس الفريوي أنّ المكتب قام منذ تاريخ افتتاحه إلى غاية يوم 09 أوت 2018 بإنجاز 1602 ملفا استفاد أصحابهم من برنامج المصاحبة موزعة بين 397 ملفا لمحكومين مباشرة بالعمل لفائدة المصلحة العامة و1176 ملفا من المتمتعين بالسراح الشرطي و27 ملفا لأطفال جانحين خضعوا للمتابعة والمرافقة من قبل المكتب إضافة إلى ملفين على مستوى ملفات المتابعة والاختبار للرشّد بقرار من المحكمة.
وتعدّ جرائم السرقة والعنف واستهلاك مادة مخدرة من أهمّ الجرائم التي ارتكبها من انتفعوا بنظام المصاحبة إلى حدّ اليوم.
وأشار الفريوي إلى أن 92 مؤسسة عمومية استفادت من أعمال المتمتعين بالعقوبات البديلة والمحكومين بالعمل لفائدة المصلحة العامة من محاكم وبلديات ومعتمديات ومستشفيات ودور شباب ومراكز أمن وحرس ودار المسنين بسوسة والشركة التونسية للسكك الحديدية، مراكز تكوين، الميناء البحري، مركز الدفاع والادماج الاجتماعي بسوسة والسجن المدني بالمسعدين وغيرهم.
أكثر من مليون دينار تمّ توفيرها للمجموعة الوطنية
وأضاف الفريوي أنّ العمل لفائدة المصلحة العامة وفّر للدولة من سنة 2016 إلى اليوم ما يقدّر بـ 46926 ساعة عمل مجانية إضافية لساعات عمل موظفي وأعوان الدولة أي ما يعادل 5865.75 يوم عمل وما يساوي 16 سنة و7 أشهر و5 أيام عمل كما وفّر لخزينة الدولة ما قيمته 1150.531.668 ألف دينار وهو ما يمكن توظيفه في تحسين ظروف إقامة المساجين وتكوينهم مشيرا إلى أنّ تكلفة السجين لليوم الواحد بسجن المسعدين تقدّر بـ 12.550د من أكل وشرب ونظافة دون اعتبار بقية التكاليف غير المباشرة وتتكلف 32د بالنسبة للسجين في الإدارة العامة.
ووصف قاضي تنفيذ العقوبات تجربة المصاحبة بالمربحة للدولة وللمؤسسة السجنية وللمجتمع وللمحكوم عليه الذي سيعود مواطنا صالحا حسب تعبيره.
وفيما تمثّل نسبة العود في تونس 40.9 بالمائة حسب احصائيات 2017 فإنّ هذه النسبة لا تتجاوز في أقصى الحالات 3 أو 4 بالمائة بالنسبة للمنتفعين بالعقوبات البديلة حسب تقدير محدثنا مؤكدا أنّه تمّ تسجيل عودة 23 من بين 1602 حالة خضعت إلى برنامج المصاحبة من طرف المكتب أي بنسبة لا تتجاوز 1.45 بالمائة.
ومن جهته يقول بسام سعيد مدير مكتب المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي بتونس أن الممارسة التطبيقية أثبتت نجاعة هذا التوجه من حيث مقاومة ظاهرة العود وأيضا من حيث تحقيق الأمن العمومي نتيجة انخراط الخاضعين للعمل لفائدة المصلحة العامة في تنفيذ البرامج المعروضة عليهم بنسبة تزيد عن الثمانين بالمائة وهي نسبة تبين في ذات الوقت درجة استعدادهم للاندماج وانخراطهم في العمل للصالح العام وتجنب الانحراف.
ويضيف ما يشجع على مواصلة الجهد هو ما لوحظ من جدية وانضباط وحتى بعض الحماسة في إنجاز الاعمال من قبل كل الأطراف المتداخلة. كما أن مكونات المجتمع المدني ساهمت بفاعلية وحرفية في تنفيذ برامج التأهيل والادماج والدعم القانوني المجاني.
الأسباب الداعية لتأسيس مكتب المصاحبة النموذجي
أسباب عدّة تظافرت ليقع التفكير في ضرورة تفعيل عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة وبعث مكتب نموذجي للمصاحبة يقع من خلاله تنفيذ هذا الحكم خاصة أمام تطوّر مفهوم العقوبة نحو اصلاح الجاني والسعي إلى إعادة ادماجه في حظيرة المجتمع.
ويعدّ الاكتظاظ داخل السجون التونسية والذي فاق طاقة استيعابها من أهم هذه الأسباب اذ يقبع بين 23 ألف و25 ألف سجين وراء القضبان أغلبهم من المحكومين بمدّة قصيرة.
ويمثّل المعدلّ العالمي لنسبة الاكتظاظ داخل السجون 169 سجينا عن كلّ 100 ألف ساكن أمّا في تونس فيوجد أكثر من 200 سجين عن كلّ 100 ألف ساكن وهو ما يعكس ارتفاع نسب العود في البلاد التونسية وفقا لمحدثنا.
فالاكتظاظ والاختلاط مع المجرمين الخطيرين داخل السجون والتي تفتقر إلى برامج تأهيل وإعادة ادماج وبنية تحتية سليمة يجعلان السجين سريع التأثر ويوفّران له فرصة لتعلّم آليات جديدة للجريمة يستخدمها عند خروجه.
ومن الأسباب الأخرى أيضا ارتفاع تكلفة السجين ما يرهق ميزانية الإدارة العامة للسجون وخزينة الدولة رغم أنها تعتبر متدنية بالنسبة لتكلفة السجين في البلدان الأجنبية.
لذلك فنظام المصاحبة يهدف بالنسبة للمحكومين بالعقوبة البديلة إلى تفادي التجربة السجنية خاصة لحديثي السنّ والفئات الهشة، الحد من ظاهرة العود، تعزيز إعادة الاندماج الاجتماعي والمهني وتقديم المساعدة وخلق فرصة وأمل لهم.
أما بالنسبة للدولة وللنظام القضائي فتمكّن من تحسين ظروف أماكن الإيقاف، المساهمة الفعالة في المجتمع، تقليص الاكتظاظ داخل السجون وتخفيض الكلفة المرتبطة بنظام السجون.
عراقيل قبل تأسيس المكتب وبعده
لئن حققت تجربة المصاحبة نتائج إيجابية وخاصة على مستوى التدني الكبير لنسبة العود في صفوف المحكومين الذين شملهم هذا النظام فإنها عرفت عدّة صعوبات وتعثرات قبل تأسيس المكتب وبعده مثلما أشارت إلى ذلك منية السافي قاضي تحقيق أول بالمحكمة الابتدائية بسوسة ومن مؤسسي المكتب النموذجي للمصاحبة.
وأوضحت السافي في حديثها معنا أن من بين التعثرات التي عرفها المكتب قبل تأسيسه ما جدّ من أحداث بعد 14 جانفي 2011 وما لحق السجن المدني بالمسعدين من تخريب لإحدى وحداته ما أدّى إلى مزيد الاكتظاظ داخل وحدة السجن المتبقية.
كما ساهم تعاقب الحكومات وما رافقه من عدم استقرار على مستوى وزارة العدل والفريق الذي نتعامل معه صلب الوزارة في تأخرّ تركيز هذا المكتب حسب قولها.
وأشارت محدثتنا إلى أن المكتب واجه في البداية إلى جانب قلة الإمكانيات المادية واللوجستية وغياب القانون المنظمّ ما أسمته بشحّ الأحكام بالعمل لفائدة المصلحة العامة نظرا لعدم اقتناع قضاة الجزائي في السابق بنجاعة هذه العقوبة في ردع المتهم خاصة امام تعدد مهام قاضي تنفيذ العقوبات لذلك سعى المكتب الى توسيع نطاقات عمله نحو السراح الشرطي ونحو مرافقة ومتابعة الأطفال حيث كانت من دفع نحو هذه التجربة باتخاذ هذا القرار مع أحد الأطفال قبل اصدار الحكم.
ولمزيد نجاح هذه التجربة تقول السافي أنه من المهمّ اليوم انشاء ورشة عمل نسعى إلى تأسيسها منذ مدّة لفائدة المحكوم عليهم بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة في اختصاصات مختلفة من حدادة ونجارة وفلاحة.
من جهته وعن أهم النقائص والصعوبات التي تعرّض لها المكتب أثناء عمله أكّد قاضي تنفيذ العقوبات بسوسة قيس الفريوي أنّ أهم ما نطالب به اليوم هو الإسراع بوضع نصّ قانوني واضح وصريح وتابع “نريد إطارا تشريعيا منظما للمصاحبة في تونس ينصّ صراحة على مصطلحي “المصاحبة” و”أعوان المصاحبة” لأن ما هو موجود حاليا لا يحتوي هذه العبارة وهو ما ننتظره من التنقيحات الجديدة لمجلة الإجراءات الجزائية”.
كما نرغب في تعميم هذه التجربة لتعود بالفائدة أكثر على الدولة من ناحية وعلى المحكومين والمجتمع من ناحية ثانية.
وأضاف محدّثنا ننتظر أن يقع تنقيح الفصل 15 مكرّر من مجلة الإجراءات الجزائية ليشمل جميع الجنح ويستفيد بذلك أكثر عدد ممكن من المحكومين ببرنامج المصاحبة.
وانتقد الفريوي التركيز على العمل لفائدة المصلحة العامة مقابل عدم التنويع في العقوبات البديلة في تونس قائلا أنّ ذلك يمثّل عائقا في عملنا وهو ما يستوجب ضرورة التوسيع في مجال هذه العقوبات ووجود بدائل أخرى تمكّن القاضي من اختيار العقوبة التي تتماشى مع شخصيّة المتهم.
وذكر الفريوي أنه يوجد في التجارب المقارنة من يعمل على الحرية النصفية والمراقبة الالكترونية والإقامة داخل المنزل وغيرها من العقوبات.
ومن العوائق التي شهدتها عمليّة المصاحبة أيضا قال الفريوي أنّ قاضي تنفيذ العقوبات فرد واحد وهو غير متفرّغ وتتعدّد مهامه داخل المحكمة وخارجها ما من شأنه أن يؤثّر على أداء مهامه في المراقبة والمتابعة وأن لا يحقّق النجاعة الكافية واللازمة فيما يتعلق بمسألة التأهيل وإعادة الادماج وهو ما استوجب تعيين مرافقين عدليين لمساعدته في عمله.
وواصل الفريوي قوله من الصعوبات الأخرى التي اصطدم بها مكتب المصاحبة في الأوّل عدم تقبلّ المؤسسات العمومية لفكرة استقبال المحكومين عليهم بالعمل للصالح العام داخل مؤسساتهم وهو ما جعلنا نرّكز عملنا في البداية على المحاكم لكن في مرحلة ثانية وبعد الاقناع والنجاح بدأنا نستشف هذا القبول بل أصبحت تردنا اليوم عديد الطلبات من هذه المؤسسات للانتفاع من عمل الخاضعين لنظام المصاحبة والمساهمة في إعادة ادماجهم ووصولنا اليوم إلى 92 مؤسسة يعتبر عددا هامّا جدا وفق قوله.
ويشير بسام سعيد مدير مكتب المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي بتونس إلى أن عزوف المؤسسات العمومية في البداية راجع إلى عدم بلوغ الوعي والفهم الكافيين لدى مسيِري المؤسسات العمومية لمفهوم وثقافة العمل لفائدة المصلحة العامة، وبطبيعة عمل مكتب المصاحبة، فالفكرة السائدة حينها هي عدم قبول المنتفعين بهذه العقوبة على أساس أنهم مجرمون وذوو سوابق وخريجو سجون لذلك تم العمل على تغيير هذه النظرة وهذه الفكرة.
كما اعترض المكتب عائق تمثل في عدم توفر الأماكن الملائمة التي يمكن للمحكوم عليهم بالعمل لفائدة المصلحة العامة قضاء عقوبتهم فيها، من حيث الإمكانيات والأدوات والتجهيزات وهو ما عملت المنظمة على تجاوزه عبر التشجيع المادي والمعنوي للمؤسسات العمومية ومؤسسات المجتمع المدني لاحتضان هؤلاء المحكومين بالعمل للمنفعة العامة لتنفيذ أحكامهم لديهم حسب المعايير الدولية لحقوق الانسان وفقا لمحدثنا.
ولفت قيس الفريوي إلى أنه كان بالإمكان أن ينجز المكتب أكثر من 1602 ملفا لكن قلّة الأحكام القضائية لصالح العمل لفائدة المصلحة العامة حال دون ذلك مشيرا إلى أنّ عددا من القضاة يرون أنّ هذه العقوبة لا ترتقي إلى أن تكون رادعة وناجعة.
ووصف محدثنا هذه الأحكام بالمحتشمة ولكنّها يقول في تطوّر معتبرا في ذات الوقت أنّ 397 حكما صادرا بمحاكم سوسة بما فيها أكثر من 100 حكم خلال السنة القضائية 2017-2018 يعدّ محترما إذا ما قارناه ببقية الأحكام بالعمل لفائدة المصلحة العامة في بقيّة محاكم الجمهورية.
وأشار الفريوي إلى أنه في التجارب المقارنة تعدّ هذه الأحكام بالآلاف وحتى بالملايين فكينيا مثلا أصدرت 8166 حكما قاضيا بالمصاحبة سنة 2015 وأكثر من 60 ألف حكم بالعمل لفائدة المصلحة العامة مذكّرا بأن المصاحبة في بعض الدول تعدّ عقوبة وليست آلية.
ومن ناحيتها ترى سامية الشتيوي مديرة مركز الدفاع والادماج الاجتماعي وهو احدى المؤسسات العمومية التي انتفعت بخدمات محكومين بالعمل لفائدة المصلحة العامة أن هذه التجربة جيّدة ورائدة وتنسج على منوال الدول الأوروبية وأفضل من السجن لكن تقول نريدها أن تكون أكثر نجاحا وذلك بتظافر الجهود وحسن التنسيق.
وتضيف محدثتنا أنها تجربة تتطلب الكثير من التفهم والوعي من قبل المحكوم عليه ومن عائلته ومن المجتمع ككل.
ولفتت الشتيوي إلى أن بعض المحكومين عليهم لا يأخذون العمل لفائدة المصلحة العامة مأخذ الجد لذلك يتهاونون في أداء عقوبتهم وهو ما يستلزم مزيد الحزم في المتابعة والمراقبة الميدانية من قبل أعوان مكتب المصاحبة مع ضرورة مراعاة محدودية الإمكانيات اللوجستية للمكتب.
من التجربة النموذجية لمكتب المصاحبة بسوسة إلى التعميم
مكتب المصاحبة بسوسة تجربة نموذجية لا تزال الوحيدة في البلاد التونسية في انتظار تعميمها وتعمل الإدارة العامة للسجون والاصلاح حاليا على وضع ستّ مكاتب أخرى سيقع تركيزها بكل من محكمتي الاستئناف بتونس وبنزرت وبالمحاكم الابتدائية بمنوبة والمنستير والقيروان وقابس وذلك ضمن مشروع تطوير المنظومة الجزائية.
وتتولى هذه المكاتب مراقبة ومتابعة وتوجيه المحكوم عليهم بالعقوبات البديلة وأهمها عقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة وقد تمّ انتداب 20 مرافقا عدليا لمساعدة القضاة في تنفيذ مهامهم وهم من إطارات السجون والإصلاح من المختصين في علم النفس والاجتماع والقانون.
هذه المكاتب وان كان من المنتظر أن تنطلق في عملها أواخر سنة 2017 مثلما أعلن عن ذلك في تصريحات سابقة المدير العام للسجون والإصلاح الياس الزلاقي فإنها إلى اليوم لم تباشر بعد عملها.
وأفاد الناطق الرسمي باسم الإدارة العامة للسجون والإصلاح سفيان مزغيش مؤخرا أنّ انطلاق هذه المكاتب مبرمج للفترة بين سبتمبر وأكتوبر 2018 مؤكدّا نجاح تجربة مكتب سوسة منذ سنة 2013 ومساهمتها في التقليص من نسبة العود.
وسبق أن أشار الزلاقي في تصريح اعلامي إلى أنّ نسبة المودعين في السجن بتهم جناحية والذين يمكنهم الاستفادة من هذا البرنامج تقدّر بـ 29.3 بالمائة من المودعين بالسجون في جنح.
كما أشار إلى أنّ غياب الإطار التشريعي المنظم لمؤسسة المصاحبة لم يمنع مؤسسة السجون والإصلاح من السعي إلى تفعيل الممارسات الفضلى والاقتداء بالتجارب النموذجية.
ولفت مزغيش إلى أنّ إدارة السجون والإصلاح تطمح إلى أن تصبح “مؤسسة المصاحبة” على مستوى وطني وتشمل كافة المحاكم في البلاد لذلك يجب المرور بداية بمرحلة التجربة النموذجية في انتظار المصادقة على آليات أخرى بديلة للسجن وتنظيم المصاحبة في مجلة الإجراءات الجزائية.
وتعليقا على تأخير تأسيس المكاتب الست الجديدة قالت منية السافي أن عدم وجود القانون المنظم الى حد اليوم قد يكون وراء ذلك كما أشارت إلى اختلاف توجهات المنظمات التي دعّمت هذا المكتب والتي تقول أن منها من يذهب في تعميم هذه التجربة في بقية المحاكم ومنها من يريد مواصلة عمل التجربة النموذجية لمدة أكبر.
تجربة المصاحبة في تونس ورغم أنها حققت نتائج إيجابية في غياب التشريعات والامكانيات الكافية وخلقت لها نموذجا خاصا يتماشى مع التشريعات والامكانيات المتاحة وطبيعة المجتمع والسياسة الجزائية التي تتجه اليوم نحو التطوير تجسيما لما جاء به دستور 2014 من أنسنة للعقاب وما فرضته الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها تونس في مجال حقوق الانسان فيظل ينقصها مزيد من الدعم ومن التحسيس بها والسياسة الجريئة والقرار القوي على مستوى أعلى السلطة.