يامن أحمد حمدي
هناك حقيقة ساطعة لا يمكن إغفالها اليوم وهي أن مشروع الدستور التونسي الذي يناقش اليوم تحت قبّة التأسيسي دون مستوى المأمول من تطلعات الشعب التونسي و ثورته التي غيّرت وجه المنطقة بل والعالم.وبسبب كثرة النقائص فسوف نركز على نقطة مهمّة وخطيرة تستدعيان التثبت في مشروع الدستور و هي قضية الحصانة وما يتعلق بها من مسائل الإفلات من العقاب واستغلال النفوذ تحت عديد المسوغات غير المقبولة، بل والصادمة لوعي شعب ينتظر دستورا يعبر عن ثورته.
بمقتضى الفصل 68 من مشروع الدستور يتمتع رئيس الجمهورية أثناء ممارسة مهامه بحصانة قضائية، كما ينتفع بهذه الحصانة القضائية “بعد انتهاء مباشرته لمهامه بالنسبة للأفعال التي قام بها بمناسبة أدائه لمهامه”. هذا الفصل للأسف يذكرنا بفصل مشابه له تماما تبناه الرئيس التونسي المخلوع سنة 2002 في استفتاء شعبي مزوّر لم يتوفر فيه الحد الادنى من الشفافية و طبعا باعتماد نتيجة موافقون بنسبة الأغلبيّة الكاسحة، حيث تم بفعل ذلك الاستفتاء إضافة الفصل 41 الذي كان له الصيغة التالية: “يتمتع رئيس الجمهورية أثناء ممارسة مهامه بحصانة قضائية، كما ينتفع بهذه الحصانة القضائية بعد انتهاء مباشرته لمهامه بالنسبة إلى الأفعال التي قام بها بمناسبة أدائه لمهامه“
و بالفعل، فقد دفع الرئيس المخلوع ثمنا باهظا لاستهزائه بعلوية الدستور ( من خلال عمليات تجميل وترقيع متعاقبة كان هدفها الأساسي تعزيز سلطاته وتأبيد نظامه) لأنه كان إيذانا للجميع بانه سائر على درب معلمه الحبيب بورقيبة في جعل نفسه رئيس مدى الحياة و تأكيد تماهي الدولة مع شخصه ، مما صعد من تحركات القوى السياسية و الحقوقية ضد نظامه وصولا الى خلق الظروف التي انتجت الثورة التونسيّة المجيدة.
هكذا يبدو أنـّه كتب على الشعب التونسي (إذا تم التصويت على هذا الفصل) أن لا يتحرر من عقدة قديمة متجدّدة: تسلط “المجاهد الأكبر” (الذي اعلن نفسه رئيسا مدى الحياة و حكم جون منازع لمدة 31 سنة) و “صانع التغيير” (الذي حكم بالحديد و النار لمدة 23 سنة )، و “المستبد العادل” الجديد الذي سيعطيه “الشعب” حصانة دائمة على أفعاله تجعله فوق كل محاسبة.
إن هذا الفصل تراجع كبير عن الشعارات التي رفعتها الثورة التونسية ومحاولة جديدة لتقنين الاستبداد حتى كلن ذلك لفترات أقل طولا (حصر الرئاسة في دورتين) إذا سلمنا بان الرؤساء القادمين لن يبدعوا حيلا جديدة للبقاء في الحكم ما دامت أفعالهم غير قابلة للمساءلة.
نفس مبدأ الحصانة الملغومة نجده يقدّم هديّة لأعضاء مجلس النوّاب فالفصل 53 يعطي لعضو مجلس الشعب حصانة تمنع “إجراء أي تتبع قضائي مدني او جزائي (…) أو إيقافه أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها أو أعمال يقوم بها بمناسبة أدائه لمهامه النيابية”، ووهو ما يضاعف من خطر استغلال النفوذ و الإفلات من العقاب في حال ارتكاب مخالفات تمس بمصالح البلاد أو تمس من السمعة التي يجب أن تتوفر في نواب الشعب. فهذه الصيغة “بمناسبة ادائه لمهامه” خطيرة و حمالة اوجه و قد تفتح ابوابا مشرعة لتبرير كل شيء خاصة فيما يتصل بالأعمال التي يأتيها النائب بدعوه قيامه بمهامه.
طبعا ومن المعقول أنـّه لا خلاف بين كل رجال القانون في حاجة نوّاب الشعب لدى ممارسة وظيفتهم التشريعية و عملهم النيابي إلى ضمانات كافية، ولكن الفرق كبير بين مجرد التعبير عن آراء أو تقديم مقترحات من جهة، و بين القيام بأعمال يقدر هذا النائب أو ذاك أنها من صلب مهامه في حين أنها قد تنطوي على تجاوز للصلاحيات أو استغلال للنفوذ. ولم تفلح الاستثناءات التي قدمتها هيئة التنسيق و الصياغة للتحفيف من هذا التخوف من أنّ دائرة التحصين ستجعل من الدولة الجديدة بمختلف أجهزتها التنفيذية و التشريعية و الأمنية فوق المساءلة، تماما كما بقي اغلب فلول النظام السابق إلى حدّ الآن دون مسائلة حقيقية في إطار منظومة عدالة انتقالية مركزية و بيروقراطية تهتم بالبيداغوجيا أكثر مما تهتم بإعادة حقوق الناس.
و يتعاظم الخوف من هكذا حصانة إذا علمنا أنّ مشروع الدستور أبقى على غموض تام فيما يتصل باختصاص القضاء العسكري من عدمه في محاكمة المدنيين (الفصل 105) مما يوحي بإضافة عقبات جديدة أمام من يقاضي احد عناصر الأجهزة الأمنية.
إن هذه المسالة لا بد من أن تحظى باهتمام خاص من طرف قوى المجتمع المدني لان الحصانة القضائية المهداة بهذا الشكل لأكثر من حلقة في هرمية الدولة تؤذن بإفراغ كل رقابة و كل تقاض من أي فائدة أو مضمون، و تجعل دستور تونس المرتقب يسير عكس حركة التاريخ التي تعمل على التقليص من الاستثناءات و الأنظمة الخصوصيّة.
إنّ احتواء مشروع الدستور على كل هذا التحصين المبالغ فيه لأهمّ سلطتين في البلاد، أي التشريعيّة والتنفيذيّة يجعل منه سببا وجيها لعودة الاستبداد والفساد لا من باب تجاوز بعض القوانين، بل بتغطية دستوريّة كاملة، وما في ذلك من مخاطر على الحريّات الخاصّة والعامّة والحقوق السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، و يبقى الأمل قائما في أن تعي الطبقة السياسية و الكتل الممثلة في المجلس التأسيسي بأن الدستور الذي تتمّ مناقشته هذه الأيّام في الأيام القريبة ملغوم بأفتك “القنابل الموقوتة والوقتيّة”، وهو ما يفرض على النخب السياسيّة ومكوّنات المجتمع المدني التصدّي لمثل هذه الخروقات والثغرات الخطيرة.