بارونات الإعلام و”إغواء الأبرياء”

رمزي غابري  

لقد غذى موضوع المسؤولية الاجتماعية للصحافة الفكر الديمقراطي منذ القرن السابع عشر. هذا الفكر دفع المجتمعات الديمقراطية الى المحافظة على وسائل الإعلام وعدم التفويت فيها لفائدة نظام الخوصصة واعتبارها جزءا من القطاع العام. وأوكلت السلطة السياسية لهذه الوسائل مهام الاضطلاع بأدوار اجتماعية والإسهام في بلورة تصور مثالي لمفهوم المواطنة.

في تونس، بعد أربعة قرون من التاريخ المذكور سلفا، رحل علي وبقي “الاربعون حرامي”، اختفوا وتخفوا،  خفتوا أصواتهم الى حين غرة. فهمناهم، ومازالوا لم يفهموا، ويبدو أنه لم يستدرجهم احد ليخطؤوا ولم يستوعبوا الدرس الذي استوعبه العالم، فبدا عصيا على فهمهم.

هؤلاء البارونات الإعلامية المخلوعة ونظامها الإقطاعي البائد، ما هابت الوهاب وخالفت شرائع عبادة عبد الله لخالقه، وكل النواميس والأخلاق الإنسانية، فتفننت في استدراج الناس وتشجيعهم على قبول وضع اجتماعي واقتصادي وسياسي وإضعاف قدرة الشعب على التفكير الناقد فيما يطرح عليه من نظم اجتماعية وقيمية. وحرصت ان يكون الإعلام الآلة التي تصنع الأحلام  وتقدمها للشباب لتسحب من انشغاله قضاياه الجوهرية وينحرف عن واقعه ويعيش في هامش مفرغ من الموضوعية والمعقول.

لقد كانت وسائل الأعلام على اختلاف أصنافها وفي مقدمتها التلفزة باعتبارها وسيلة اتصال جماهيري تتصف بقدرتها على إبلاغ رسائلها الإعلامية الى اكبر عدد من الجمهور، أدوات دعاية تحتكرها السلطة وتتلاعب من خلالها بقضايا المواطن البريء والساذج باعتبار تواضع قدرته على تحليل مضامين الرسائل الإعلامية التي لا تخلوا من إيديولوجيات القائمين عليها. هذا الجهاز الإعلامي الذي تواطأ في كثير من الأحيان مع جهاز من المرتزقة عمل على تزييف الوقائع وحجبها وشهر بالشخصيات الوطنية وأطنب في إغواء الشخصية البريئة للمواطن التونسي بالوعود الكاذبة وزرع فيه الإحساس باللامبالاة بالواقع المتردي الذي يعيشه لينصرف الى ملاحقة لقمة العيش والتفرغ الى همومه والانهماك فيها.

ان وسائل الإعلام مصدر يستقي منه الإنسان أفكار جديدة وقيم مختلفة وأسلوب في الحياة غير الذي اعتاده، يؤدي به الى تبني أفكار وقيم جديدة تغير في أسلوب حياته متأثرا بما يعرض عليه، لذلك فان وسائل الإعلام، لابد أن تخضع لضوابط موضوعية تعكس التحام الشعب بواقعه وتفاعل مكونات الدولة ببعضها وبالآخر. فالمشروع الإعلامي التحديثي لابد أن يفك الارتباط مع المصالح الرأسمالية الضيقة والمآرب السياسية المعزولة ليتحمل المسؤولية الاجتماعية ويقطع مع الاحتكار والديكتاتورية.

ان ثورة الكرامة هي تحول نوعي نتيجة التراكمات الكمية لواقع سياسي لم يتعهد نفسه بالصيانة والتشخيص ولم يستوعب الدروس من التاريخ فشعب تونس الرابض على ضفاف البحر منذ قرون خبر أسرار المد والجزر ولم يعد بريئا اليوم لإغوائه  ببروبغندا بارونات الإعلام والمغالطات السياسية وإيديولوجيات المارقين عن المسار الوطني لان قوة الحضارة حصن منيع أمام حضارة القوة و شباب تونس اليوم هو الضامن لتلك المقولة وثورته هي “أول القطر”.

ان الاستعمار الأول والثاني والثالث ما كانوا إلا أسبابا لتقوية الشخصية الوطنية وتحصينها ضد كل المشاريع التسلطية والقمعية.ففي اعتقادي أن المراحل الثلاث الفرنسية والبورقيبية بنوع من الاحتراز والنوفمبرية، ساعدوا الشعب التونسي في فهم قوانين لعبة الامبريالية والديكتاتورية.

ان الثورة هي خطاب شديد اللهجة إلى المجازفين بتعطيل المشروع الديمقراطي الوطني.ان هذا الخطاب نوجهه على وجه السرعة إليهم والى القائمين على الإعلام وإعادة صياغة واقعه، اذ أننا استفدنا من تجارب الماضي فهل لكم خيار غير ضمان المستقبل؟

 

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

التغوّل التركي في السوق الليبية ينهك الإقتصاد التونسي

لم يعد النظام التركي يخبأ نواياه تجاه الدول العربية، بل وبكل صراحة أصبح الرئيس التركي …