بقلم يامن أحمد حمدي
ما يزال إصدار مجلـّة الأحوال الشخصيّة مثار تساؤل ودراسة وتحليل من قبل العديد من المؤرخين والفقهاء والقانونيّن، حيث كان إعلانها مفاجأة، في التوقيت وفي المحتوى، إذ حرص رئيس الحكومة التونسيّة الحبيب بورقيبة على التعجيل بإصدار المجلة في اجل قياسي: بعد خمسة أشهر من الاستقلال، قبل كتابة سطر واحد في الدستور، وقبل إعلان الجمهوريّة بسنة، وفي فترة لا يتجاوز الاربعة اشهر منذ 17 افريل 1956 تاريخ تكليف الاستاذ احمد المستيري بوزارة العدل الى 13 اوت 1956 تاريخ الاصدار الرسمي للمجلة، وهذا الاستعجال تطلـّبته ضرورة تنظيم الحالات المدنيّة للتونسيّين قبل تنظيم وضعهم السياسي أو الدستوري. وقد تمّت المصادقة على المجلـّة ووضعها حيّز التنفيذ دون رفض صريح من أفراد الشعب التونسي أو مقاومة من قبل رجال الدين التونسيّين.
قبل الاستقلال، كان شيخ الاسلام المالكي عبد العزيز جعيط وزيرًا للعدل في حكومة الوزير الاكبر مصطفى الكعـّاك (جويلية 1947 – أوت 1950)، وقد قبل جعيّط وزارة العدل، حسب قوله، لتحقيق مشروع “المجلة الشرعية” التي أراد أن يوفـّق بواسطتها في الاحكام بين المالكية والحنفية، ولكن تمّ رفض هذه المجلـّة من قبل السلطات الفرنسيّة. ومع الاستقلال وقيام حكومة بورقيبة، تمّ اختيار أحمد المستيري وزيرًا للعدل، الذي أكـّـد حرصه على إتمام مشروع مجلــّة الشيخ جعيّط، فبادر إلى تكوين لجنة من العلماء يساعدهم في كتابة المجلـّة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور (بدرجة أولى) والشيخ محمّد الطاهر بن عاشور والشيخ عبد العزيز جعيّط (بدرجة ثانية).وكان الاتفاق بين أعضاء اللجنة على عدّة مبادئ تؤلـّف المجلـّة على أساسها، أولا: أن ما فيها لا يجب يتنافى مع القرآن والسنة، ثانيا: أن لا تحل حراما، ثالثـًا: أن تقيد مباحا أو تمنعه، رابعًا: أن تتماشى وتطوّر المجتمع التونسي وعلى ضوء ذلك تمّ تقييد الطلاق بالطلاق امام القاضي وتمّ منع المباح وهو تعدد الزوجات للمصلحة.
يجزم العديد من المطـّلعين أنّ المجلة مرتبطة أشدّ الارتباط بمواقف بورقيبة الفكرية والثقافية من خلال تضمين المجلة بعض المواقف المبدئية المنسجمة مع قناعاته ذات التوجه العلماني، حيث اعتمدت لجنة صياغة المجلة على مقترحات بورقيبة (أو تعليماته) التي كان ينقلها وزير العدل المستيري. ولكن بمساعدة من علماء دين من وزن ثقيل وقيمة علميّة هامّة، وهو ما سنتبيّنه لاحقـًا.
هل كانت مجلـّة الأحوال الشخصيّة مجلـّة ثوريّة وعلمانيّة ومخالفة للنصوص الدينيّة؟
يُشاع دائمًا عن “علمانيّة” مجلـّة الأحوال الشخصيّة ومخالفتها للتشريع الإسلامي ومخالفتها للفقه، ووصل البعض الآخر إلى تكفير بورقيبة من أجلا والدعوة لإلغائها، ولكن عكس ما يُشاع، فليس بورقيبة فقط هو من صاغ أحكام المجلـّة، حيث تؤكـّد العديد من الدراسات التاريخيّة أنّ الحبيب بورڤيبة كان كثيرًا ما يستشير عالمين من أبرز علماء تونس وهما الشيخان محمد الطاهر ابن عاشور وعبد العزيز جعيط، وعلى هذا الأساس فهما يتحمّلان مسؤوليّة في “ثوريّة” نصوص المجلـّة ومخالفتها للنصوص الشرعيّة، إذا ما وجدت. فهما أكثرا علمًا في التشريع وهما من منحا للمجلة غطاءًا شرعيّــًا.
لا تبدو المجلة مغرقة في العلمانيّة أو خارجة عن الدين، إلا في ما يخصّ منع تعدّد الزوجات وتنظيم الطلاق لدى المحكمة، وهو اجتهاد فقهي له أسس دفع الضرر، كما لاتزال مسألة تعدّد الزوجات “مثنى وثلاث ورباع” تثير الجدل بين من يعتبرها شرعًا صريحًا، وبين من يعتبرها أمرًا ظرفيّــًا يخصّ وهو أمر وقائي يستبق المشاكل الاجتماعيّة الأسريّة التي يمكن أن تقع، مع الاعتماد على مقولات علماء ومصلحين سابقين، إذ تمّ بموجب هذا القانون نزع حق الطلاق من الزوج حتى لا يستمر في العبث باستعماله والإضرار بالزوجة والعائلة، وهاتان المسألتان هما جوهر اجتهادات الطاهر الحداد ومن قبله الامام محمد عبده. كما ساهم هذا التحديد القانوني في تنظيم الوضع المدني للتونسيّين وتوثيق حالات الولادة والوفاة والزواج والطلاق وغيرها.
أمّا مسألة الميراث فقد تطابقت مع الشريعة الإسلاميّة، بإعطاء الذكر حظ الأنثيين، إذ تمّ نقل موضوع الارث وأحكامه في المجلة من مشروع المجلة الشرعيّة للشيخ عبد العزيز جعيط، بل إنّ بعض فصول المجلة مكتوبة بخطّ يد الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، بل أنّ بورقيبة نفسه قد رفض مقترح تنقيح للمساواة بين الرجل والمرأة بقوله “هذه فيها آية”، وهو ما يؤكـّد التزامه بصريح النصّ القرآني.
امّا مسألة التبني، والتي أثارت الكثير من النقاش واعتبرت أساس خور المجلة و”كفرها”، فهي ليست، كما يعتقد الكثيرون خطأ، مدرجة في المجلة ولم تكن إبان اصدارها جزءا منها، وليست الى الآن جزءا من المجلة، وانما وقع تنظيم التبني بنص قانون خاص صدر بصفة مستقلة في تاريخ لاحق لصدور المجلة، وهو قانون 1958، ومثــّل هذا القانون الخاص بتنظيم التبني واقرار العمل به، وان يكن في جوهره منسجما مع حقيقة التوجه العلماني للرئيس بورقيبة، لعلمه يقينا بان التبني يتعارض صراحة مع نص قرآني “أدعوهم لآبائهم”، فإن هذا الموقف الخاص بقانون التبني لا يمكن اخراجه من سياقه الاجتماعي، كما لا يمكن استغلاله لاعتبار المجلة التونسية للاحوال الشخصية مجلة علمانية مناقضة للفقه الاسلامي، ذلك أنّ التبني ليس قانونا إلزاميا يفرض وجوب العمل به وحده دون سواه، لأن التبني كممارسة اجتماعية في شكل تشريعي جديد، يبقى مجرد اختيار متاح أمام من يرغب في ممارسته من التونسيين والتونسيات، تماما مثل بقاء واستمرار العمل بمؤسسة الكفالة الموروثة عن أحكام الفقه الاسلامي، والتي لم يصدر قانون التبني ليلغيها، وانما جاء قانون التبني ليفتح امكانية الخيار بين المؤسستين، مؤسسة الكفالة ومؤسسة التبني، بما يحقق هذا التعايش القانوني والاجتماعي بين هذين النظامين، وبذلك فإن مسألة التبني تبقى مسألة ثانوية ضمن مجموع مسائل الاحوال الشخصية.
على هذا الأساس، لايمكن بأيّ حال من الأحوال، الادعاء بانحراف مجلـّة الأحوال الشخصيّة عن النصوص التشريعيّة، وعلى أقصى تقدير يمكن اعتبار أنّ بعض المسائل الخلافيّة فيها ليست سوى اجتهادًا من داخل دائرة الشرع الإسلامي ولم تتجاوزه ولم تخرج عنه، وماهذه المناداة بضرورة تغيير نصوص المجلـّة أو إلغائها سوى دليل على جهل البعض لحقيقة جوهرها، ولا يمكن اعتبارها سوى نوع من التصلـّب الفكري والتشدّد الديني (المخالف لجوهر الدين) وربّما لا يعدو أن يكون نوعًا من المزايدة السياسيّة لغاية استقطاب فئة اجتماعيّة معيّنة.
النهضة ومجلـّة الأحوال الشخصيّة:
سوف نتتبّع موقف النهضة من مجلة الأحوال الشخصيّة لسببين رئيسيّين: هو أنّ حركة النهضة حركة ذات توجّه ديني إسلامي، يؤسّس للقوانين التشريعيّة الإسلاميّة الخالصة، ولأنّ العديد من قوى المجتمع المدني ماتزال تعبّر عن خوفها، الذي وصل حدّ “المرض الرّهابي” أو “فوبيا النهضة”ن من إمكانيّة قيام الحركة بإلغاء المجلـّة والتراجع عن مكاسب المرأة في ما يخصّ تعدّد الزوجات والطلاق.
بعد أسبوع فقط من سقوط رأس النظام في تونس، أعلن راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة، من منفاه بلندن، أنه لن يطالب بتغيير مجلة الأحوال الشخصيّة أو مراجعة وضع المرأة في المجتمع، مؤكـّدا أنه مايزال منسجمًا مع موقفه القديم من المجلـّة والذي صرّح به سنة 1988، عندما قال بأن “حركة النهضة تقبل مجلة الأحوال الشخصية باعتبارها اجتهادا فقهيّا ضمن الاجتهادات الإسلامية”.ومؤكـّدا أنـّه بقي على انسجامه عندما أمضى على ميثاق هيئة 18 أكتوبر 2005، والذي يعتبر مجلة الأحوال الشخصية مكسبا لا تراجع عنه، وقد جاءت تصريحات الغنوشي، قبل حتى تأكـّد عودته إلى تونس، في محاولة لطمأنه جزء هام من الطبقة السياسية والشارع التونسي. كما صرّح العديد من المسؤولين في النهضة، أكثر من مرّة، على عدم مساسهم بالمجلة ومحافظتهم عليها وأنـّهم مع أحكام المجلة وليسوا مع تعدّد الزوجات ومع المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل وضدّ النظرة الدونية للمرأة، بل وتفعيل دورها الاجتماعي.
لكن الجدل المثار في الدستور حول مسألة المساواة بين الرجل والمرأة والتي يصرّ نوّاب النهضة على اعتماد لفظة “تكامل” وما فيها من استنقاص للمرأة والتهرّب من صراحة لفظة “المساواة” أعادت النقاش حول هذه المسألة للنقطة الصفر، وأعادت للحداثيّين رُهابهم من “رجعيّة النهضة وظلاميّـتها”، في حين أعادت لبعض السلفيّين ثقتهم بالنهضة وقدرتهم على تطبيق “شرع الله”، كما أعطت لحركة النهضة صفة الحزب الوسطي المعتدل في مزجه بين “التشريع الإسلامي” و”المكاسب الحداثيّة” للمرأة.