تصبحون على وطن:”شعبٌ ينتخب من لا يحكم.. أو أعطونا حقّ الانتخاب وأخذوا منّا السّيادة”

يامن أحمد حمدي

 يوجد خلل في النظام السياسي جاء من رحم تشكّله القانوني عند المصادقة على الدستور التونسي في جانفي 2014، وتظهر عيوبه أكثر مع كلّ تأزّم سياسي، وبرز بشكل جليّ ومقلق في الفترة الحالية، بعد أربعة أشهر من انتخابات 2019، وعند فشل المصادقة على حكومة الحبيب الجملي.

 يتمثّل الخلل في أنّ أبرز منصب سياسي وأكبر فاعل تنفيذي في الحياة السياسيّة التونسيّة، وهو رئيس الحكومة، لا يتمّ انتخابه من قبل الشّعب، بل يتمّ اختياره حسب تفاهم سياسي بين الأحزاب المشاركة في البرلمان، ذات الأغلبيّة وذات الأقليّة، الراغبة في المشاركة في الحكم أو في المعارضة، وحتى من خارج البرلمان أحيانا، ويمكن أن ينزلق هذا التفاهم السياسي إلى مساومات وترضيات وسوق سمسرة وتوزيع للوزارات.

  ومن جهة ثانية يشمل الانتخاب منصب رئيس الجمهوريّة الذي هو منقوص الصلاحيّات ومحدود السلطة التنفيذيّة (المتلخّص في التشاور على تعيين وزارتين فقط)، ولديه سلطات قضائيّة شرفيّة، ولا يمتلك في السلطة التشريعيّة سوى قلم التوقيع على القوانين أو تقديم بعض المقترحات لمجلس النوّاب.

  كما يشمل الانتخاب نوّاب متنافرون حزبيّا وفكريّا، يتنقّل أغليهم من حزب لآخر ومن كتلة لأخرى وأيضا من موقف لآخر، دون فاعليّة سياسيّة واقعيّة: النوّاب المستقلّون يتمّ انتخابهم فرادى ويتحرّكون جماعات في شكل كتل برلمانيّة، والنوّاب الحزبيّون يتمّ انتخابهم جماعة ولكنّ يبقون مسلوبي الإرادة والمواقف لصالح أحزابهم، ونوّاب الائتلافات غير مرتبطين بالائتلافات سوى بشكل أخلاقي والتزام شخصي ومزاجي في بعض الأحيان، لذلك تكون الائتلافات أوّل من تتشرذم وتنقسم.

  هذا الخلل يجعل من الصّعب تصنيف النظام السياسي للبلاد التونسيّة: نظام برلماني؟ نظام رئاسي؟ نظام رئاسي معدّل؟ كما يجعل من الصّعب تطبيق أساس مهمّ من أسس الديمقراطيّة: المحاسبة بكلّ أنواعها، فلا أحد يمتلك القدرة على محاسبة الأطراف الأخرى، وحتّى جلسات المساءلة لأعضاء الحكومة تتحوّل إلى جلسة اشتباك بين النوّاب، وتصفية للحسابات بين الكتل، لذلك تفقد المساءلة قيمتها “الزجريّة”، وجعل منها عرضة للاستخفاف من أعضاء الحكومة: فمنهم من يتغيّب عنها باستهتار (وزير الفلاحة سمير بالطيّب في ماي 2019)، ومنهم من يخرج في بداية انطلاقها دون احترام للقانون بتغطية من الحزام السياسي لحزبه (رئيس الحكومة يوسف الشاهد في أفريل 2019 بعد افتعال اشتباك لفظي من نوّاب حزب تحيا تونس)، ونفس الأمر يقع للنوّاب الذّي يتغيّب بعضهم عن قصد، وربّما كلّهم (مثل جلسة مساءلة وزيرة الصحّة في موضوع وفاة الأطفال الرضّع في مستشفى الرابطة في جويلية 2019).

 حركة النهضة اكتشفت خطورة هذا الخلل، فاستبقت كلّ مبادرة قانونيّة تجاهه وطالبت بتعديل في القمّة: الترفيع في العتبة الانتخابيّة إلى 5 %.

وأيضا رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد، وبخلفيّته الأكاديميّة القانونيّة، اكتشف الخلل في النظام السياسي، ففكّر في خلق حركيّة سياسيّة جديدة، ولكن في القاعدة هذه المرّة: مشروع سياسي حول التشاركيّة المحليّة أو الحكم المحليّ، (في اقتباس عن النظام الموجود في الولايات المتحدة الأمريكيّة)، ولكن هذا المشروع غير واضحة من ناحية المضمون: لا يوجد حولها كتاب أو دراسات للرئيس أو لغيره، ومن ناحية الشكل: لم يتمّ تقديم ولو مسوّدة مشروع حولها.

  في الملخّص يبدو أنّ الشعب قد أراد ولكن إرادته لا معنى لها فعليّا، شعب ينتخب من لا يحكم، شعب افتك حقّ الانتخاب ولكن لم يضمن حقّ السيادة.. فيبدو الأمر: “ديموس اكلوغي” من دون “كراتوس”: شعب ينتخب من دون أن يحكم..

..وتصبحون على وطن

تعليقات

عن Houda Karmani

شاهد أيضاً

محمد زيتونة: فتح تحقيق ضد مقدمة برنامج بإذاعة خاصة يأتي على خلفية مخالفة قرار منع التداول في قضية « التآمر على أمن الدولة »

قال الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس، محمد زيتونة، أن النيابة العمومية أذنت للفرقة المركزية …