نلسون مانديلا: آخر عمالقة القرن العشرين

بقلم يامن أحمد حمدي

نكست الأعلام اليوم في جنوب إفريقيا و عمّ الحزن كامل البلاد حدادا على وفاة زعيم النضال والمساواة والحرية والمصالحة نيلسون مانديلا عن عمر يناهز 95 سنة بعد صراع طويل مع المرض.

   من زعامة قبيلة إلى طالب مشاغب

 

   تبدأ القصّة منذ يوم 18 جويلية 1918، في قرية صغيرة تدعى “مفيزو” في منطقة “ترانسكاي “، شمال جنوب إفريقيا، عندما ولد روليهلالا مانديلا  (RolihlahlaMandela) من أب كان رئيس قبيلة، وقد توفي عندما كان نيلسون لا يزال صغيرا، إلا انه انتخب مكان والده، وبدأ إعداده لتولي المنصب عندما كان صغيرا. كان لوالد مانديلا أربع زوجات وما مجموعه 13 طفلا (أربعة أولاد وتسعة بنات). نيلسون مانديلا هو ابن الزوجة الثالثة زوجة فاني نوسيكيني Fanny Nosekeni حيث قضى في منزلها معظم طفولته المبكرة.

  لقبه أفراد قبيلته بـ’ماديبا’ Madiba وتعني “العظيم المبجل”، وهو لقب يطلقه أفراد عشيرة مانديلا على الشخص الأرفع قدرا بينهم وأصبح مرادفا لاسم نيلسون مانديلا.

دائما ما اعتبر مانديلا أن المهاتما غاندي  المصدر الأكبر لإلهامه في حياته وفلسفته حول نبذ العنف والمقاومة السلمية ومواجهة المصائب والصعاب بكرامة وكبرياء.

في سن السابعة وكان مانديلا أول فرد من عائلته يذهب إلى المدرسة، حيث أعطاه معلمه اسم “نيلسون”. توفي والده عندما كان نيلسون في التاسعة من عمره وأصبح هو معيل أخوته.

 تابع مانديلا دراسته في معهد” كلاكبوري”، الذي يعتبر من أبرز المعاهد التي تدرّس الحضارة الغربيّة. وفي سنة 1937، وعندما وصل سنّه التاسعة عشر، انتقل إلى هالد تاون للدراسة في كلية ويسليان، حيث أظهر بعض الاهتمام في الملاكمة والجري. وتحصّل على الإجازة في الآداب ثم بدأ الإعداد لنيل الأستاذيّة في الحقوق من جامعة فورت هير، حيث تعرّف مانديلا على رفيق دربه في النضال أوليفر تامبو (1917-1993).

  تمّ فصل مانديلا وتامبو من الجامعة، سنة 1940، بتهمة الاشتراك في إضراب طلابي. فتنقل بين جامعات عديدة ومارس نفس الأنشطة الطلابيّة التي كانت سببا في فصله في كلّ مرّة. وبسبب مراقبة الشرطة قرّر مانديلا الهروب إلى جوهانسبرغ، العاصمة السياسيّة لجنوب إفريقيا، وعمل لفترة في منجم تعدين، قبل أن ينجح في الحصول على وظيفة مساعد في مكتب محاماة، وذلك بفضل صديقه والتر سيسولو الذي كان محاميا في نفس المكتب. مكنه هذا العمل من إنهاء دراسته عن طريق المراسلة مع جامعة جنوب أفريقيا (UNISA)، وبعد ذلك انضم  ل جامعة ويتووترساند، لدراسة القانون.

  من النشاط السياسي إلى النضال العسكري

 

    كانت جنوب أفريقيا خاضعة لحكم يقوم على التمييز العنصري الشامل، المعروف بـاللغة الجنوب إفريقيّة “الأبارتهيد:Apartheid“، وهي لفظة تتكوّن من مقطعين: “أپارت“apartو “هيد “heid والتي تعني “الفصل” أو “بين”، والذي تأسّس منذ سنة 1948، وكان هذا النظام يقوم على تقسيم المواطنين تقسيم عرقى بين السود الأفارقة من جهة و الملونين (يعنى الذين هو من أصل أوروبي لكن مستوطنون منذ قرنين تقريبا) من جهة ثانية، وعلى الأساس كانت الحكومة تفرق بينهم فى السكن والتعليم والرعاية الصحيّة وتمنع الزواج المختلط وحتى المقاهي وركوب الحافلات و دخول الشواطئ،… كما لم يكن يحق للسود الانتخاب ولا المشاركة في الحياة السياسية أو إدارة شؤون البلاد، بل أكثر من ذلك: كان يحق لحكومة الأقلية البيضاء أن تجردهم من ممتلكاتهم أو أن تنقلهم من مقاطعة إلى مقاطعة، مع كل ما يعني ذلك لشعب إفريقي (معظمه قبلي) من انتهاك للمقدسات وحرمان من حق العيش على ارض الآباء والأجداد والى جانب الأهل وأبناء النسب الواحد.

  أحس مانديلا وهو يتابع دروسه الجامعية بمعاناة شعبه فانتمى إلى حزب ” المؤتمر الوطني الأفريقي” (ANC) المعارض للتمييز العنصري سنة 1944، وفي نفس السنة ساعد في إنشاء “اتحاد الشبيبة” التابع للحزب، وأشرف على إنجاز، ما أسماه آنذاك بـ”خطة التحرك”، وهي بمثابة برنامج عمل لاتحاد الشبيبة ، وقد تبناها الحزب سنة 1949.

  سنة 1952، بدأ الحزب ما عرف ب “حملة التحدي”، وكان مانديلا مشرفا مباشرا على هذه الحملة، فجاب البلاد كلها محرضا الناس على مقاومة قوانين التمييز العنصري، خاطبا في الأحياء الفقيرة والقرى المهمشة والقبائل المنتشرة، ومنظما للمظاهرات والاحتجاجات. فصدر ضده حكم بالسجن مع عدم التنفيذ. ولكن الحكومة اتخذت قرارا بمنعه من مغادرة جوهانسبورغ لمدة ستة أشهر. وقد أمضى تلك الفترة في إعداد “الخطة ميم”، وبموجبها تم تحويل فروع الحزب إلى خلايا للمقاومة السرية.

عام 1952 افتتح مانديلا مع رفيقه أوليفر تامبو أول مكتب محاماة للسود في جنوب أفريقيا، وخلال تلك السنة صار رئيس الحزب في منطقة الترانسفال، ونائب الرئيس العام في جنوب أفريقيا كلها. وقد زادته ممارسة المحاماة عنادا وتصلبا في مواقفه، إذ سمحت له بالاطلاع مباشرة على المظالم التي كانت ترتكب ضد أبناء الشعب الضعفاء، وفي الوقت نفسه على فساد وانحياز الســلطات التنفيذية والقضائية، بشكل كان معه حصـول مواطن أسود على حقوقه نوعا من المستحيل.

   قدمت نقابة المحامين اعتراضا على السماح لمكتب مانديلا للمحاماة بالعمل، ولكن المحكمة العليا ردت الاعتراض. ولكن حياة مانديلا لم تعرف الهدوء منذ تلك الساعة. فبعد سلسلة من الضغوطات الرسمية والبوليسية، اضطر مانديلا إلى الإعلان رسميا عن تخليه عن كافة مناصبه في الحزب، ولكن ذلك لم يمنع الحكومة من إدراج اسمه ضمن لائحة المتهمين بالخيانة العظمى في نهاية الخمسينات. وقد تولى هو الدفاع ونجح في إثبات براءة المتهمين.

في يوم 21 مارس 1960، قامت الحكومة العنصريّة بمذبحة بشعة بحق مجموعة من طلاب المدارس الابتدائية والإعدادية بمنطقة شاربفيل، عندما فتحت قوات الشرطة العنصريّة النار على مظاهرة طلابية، فأردت حوالي السبعين منهم قتلى وجرحت العشرات. وقد أثارت هذه المذبحة الوحشية الرأي العام العالمي ضد نظام جنوب إفريقيا، وتصاعدت حدة الضغوط الأجنبية عليه، كما تقرر اعتبار هذا اليوم يومًا عالـميًا للقضاء على التمييز العنصري وذلك ابتداءً من سنة 1967.

  و على إثر هذه المجزرة وحظر كافة نشاطات حزب “المجلس الوطني الأفريقي”، اعتقل مانديلا لمدّة سنة، وبعد الإفراج عنه في 1961، قام بقيادة المقاومة السرية التي كانت تدعو إلى ضرورة التوافق على ميثاق وطني جديد يعطي السود حقوقهم السياسية. ودعى إلى تغيير سياسة حزب المؤتمر الوطني من العمل السلمي السياسي إلى العمل المسلـّح، فعمد مانديلا،  في العام نفسه، إلى إنشاء يعرف بالجناح العسكري للحزب الذي قام بأعمال تخريبية ضد مؤسسات حكومية واقتصادية.

  في 1962 غادر مانديلا إلى الجزائر للتدرب العسكري ولترتيب دورات تدريبية لأفراد الجناح العسكري في الحزب، و عند عودته إلى جنوب أفريقيا (1962) القي القبض عليه بتهمة مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية، والتحريض على الإضرابات وأعمال العنف. وقد تولى الدفاع عن نفسه بنفسه، ولكن المحكمة أدانته بالتهم الموجهة إليه وحكمت عليه بالسجن مدة 5 سنوات. وفيما هو يمضي عقوبته بدأت محاكمة “ريفونيا” التي ورد اسمه فيها، والتي خصّصت لمحاكمة الكثير من المناضلين في الحزب، فحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة القيام بأعمال التخريب، ونقل إلى سجن جزيرة “روبن”.

  مانديلا: السجين الذي هزم سجّانيه

 

كان مانديلا قبل عشرات السنين من سجنه قد أبدى رأيه في إن التربية يجب ألا تقتصر على “الصفوف” و “قاعات المحاضرات”، إنما على الناشطين الحزبيين أن يحولوا كل بيت وكوخ وحديقة إلى مدرسة أو مركز لبث الوعي الوطني. وهكذا تحولت جزيرة “روبن” مركز للتعليم، وصار هو الرمز في سائر صفوف التربية السياسية التي انتشرت في طول البلاد وعرضها.

  لم يغير مانديلا مواقفه وهو داخل السجن، بل ثبت عليها كلها، وكان مصدرا لتقوية عزائم سواه من المسجونين وتشديد هممهم. وفي السبعينات رفض عرضا بالإفراج عنه إذا قبل بان يعود إلى قبيلته في ترانسكاي وان يخلد إلى الهدوء والسكينة. كما رفض عرضا آخر بالإفراج عنه في الثمانينات مقابل إعلانه رفض العنف.

  ولكنه بعد الإفراج عنه، يوم 11 فيفري 1990 أعلن وقف الصراع المسلح وبدأ سلسلة مفاوضات أدت إلى إقرار دستور جديد في البرلمان في نهاية 1993 ، معتمدا مبدأ حكم الأكثرية وسامحا للسود بالتصويت.و لقد منح مانديلا جائزة نوبل والعديد من شهادات الشرف الجامعية (1993).

وقد جرت أولى الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة، في 27 أفريل 1994 وأدت إلى فوز مانديلا فأقسم اليمين الدستورية في 10 ماي، متوليا الحكم إلى غاية إعلانه عن رغبته في التقاعد عام 1999.

  وإلى اليوم يعتبر نلسون مانديلا أحد أبرز قادة النضال الوطني من أجل الحريّة بإفريقيا والعالم، حيث يستلهم الكثيرون من سياسته ونضاله ومقولاته…ويبقى نلسون مانديلا أحد أبرز عمالقة القرن العشرين…

تعليقات

عن taieb

شاهد أيضاً

التغوّل التركي في السوق الليبية ينهك الإقتصاد التونسي

لم يعد النظام التركي يخبأ نواياه تجاه الدول العربية، بل وبكل صراحة أصبح الرئيس التركي …