روبرت وينغفيلد هيز
تصر الولايات المتحدة على ان القنبلتين الذريتين اللتين القتهما على مدينتي هيروشيما وناغاساكي اليابانيتين كانتا ضروريتين من أجل وضع حد للحرب العالمية الثانية، ولكن وجهة النظر هذه تتجاهل تقريبا الثمن الهائل الذي دفعه اليابانيون في الارواح.
التقيت بشاب رائع في هيروشيما قبل بضعة أيام. اسمه جمال مادوكس، وهو طالب في جامعة برينستون الامريكية.
كان جمال قد خلص توا من زيارة متحف السلام في المدينة، التقى خلالها بأحدى الناجيات من القنبلة الذرية (هيباكوشا، باليابانية).
سألت جمال عندما كنا واقفين بالقرب من قبة القنبلة الذرية الشهيرة في هيروشيما إن كانت زيارته للمدينة قد نجحت في تغيير انطباعه حول استخدام الولايات المتحدة للسلاح الذري لضرب هيروشيما قبل 70 سنة.
فكر جمال بالسؤال مليا، ثم قال “إنه سؤال تصعب الاجابة عليه. أعتقد أننا كمجتمع أمريكي بحاجة الى اعادة النظر في هذه الحقبة التاريخية وأن نسأل انفسنا كيف وصلت امريكا الى النقطة التي ظنت أنه من الجائز لها أن تدمر مدنا بأسرها وان تحرق مدنا بسكانها.”
ومضى للقول “أعتقد أن هذا ما يجب علينا عمله اذا كان لنا أن نفهم حقيقة ما وقع في هذين اليومين.”
ليس هذا الرأي شائعا بين الامريكيين حول هيروشيما. فالرئيس بوش الأب قال يوما ما أن الاعتذار عن ضرب هيروشيما “يعتبر تحريف من الطراز الأول”، وانه لن يعتذر ابدا.
فالرأي السائد في الولايات المتحدة يقول إن ضرب مدينتي هيروشيما وناغاساكي بالقنابل الذرية أنهى الحرب، ولذا فإن استخدام هذه الاسلحة كان مبررا – وهذه هي نهاية الموضوع.
ولكن هل هي نهاية الموضوع فعلا ؟
مما لا شك فيه أن وجهة النظر هذه تعتبر مناسبة بالنسبة للأمريكيين، ولكنها وجهة نظر جرت صياغتها بعد الحرب من قبل زعماء أمريكا لتبرير ما فعلوه – وما فعلوه كان بأي معيار من المعايير فظيعا ومروعا ومخيفا.
الموضوع لم يبدأ في السادس من آب / أغسطس (يوم ضربت هيروشيما)، بل بدأ قبل اشهر من ذلك عندما قصف الأمريكيون العاصمة اليابانية طوكيو بالقنابل الحارقة.
ففي التاسع من آذار / مارس من عام 1945، دمرت مساحة تبلغ 25 كيلومترا مربعا من طوكيو تدميرا كاملا في عاصفة نارية عظيمة اشعلها الطيران الحربي الامريكي. وكانت حصيلة القتلى مساوية، او حتى اكبر، من تلك التي سقطت في اليوم الاول من ضرب هيروشيما. وتواصل القصف الامريكي المشدد على كل المدن اليابانية من شهر نيسان / أبريل الى تموز / يوليو.
ثم جاء دور هيروشيما.
“لم نسمع أي صوت”
كانت كيكو أوغورا قد احتفلت للتو بعيد ميلادها الـثامن. وكان بيتها يقع على حافة هيروشيما الشمالية خلف تل صغير. وفي الساعة الثامنة و10 دقائق في السادس من آب / أغسطس كانت تقف في الشارع خارج البيت.
كانت القنبلة الذرية مصممة لأن تنفجر على ارتفاع 500 متر فوق سطح الارض ليكون تأثيرها التدميري اكبر ما يمكن.
تقول كيكو “أحاطني وهج عظيم وعصف هائل في نفس الوقت.”
ومضت للقول “لم أقو على التنفس، فقد طرحت ارضا وفقدت الوعي. وعندما أفقت، ظننت ان الليل قد اسدل ستاره لأني لم اتمكن من رؤية أي شيء، ولم يكن هناك أي صوت اطلاقا.”
يصعب على المرء تخيل ما شهدته كيكو في الساعات التي تلت الانفجار.
فعند الضحى، بدأ سيل الناجين بالتدفق الى خارج المدينة سعيا للعون، وكان الكثيرون منهم في حالة مزرية.
وتقول كيكو “حاول معظم الفارين التوجه الى التل، إذ كان هناك معبد للشينتو قرب بيتنا ولذا قصده كثيرون.”
وقالت “تقشرت جلودهم وتدلت من أطرافهم واجسادهم، حتى أني ظننت أنهم كانوا يحملون خرقا ولكنه كان الجلد. لم لاحظت شعورهم المحروقة وكان الرائحة فظيعة.”
استهداف متعمد للمدنيين
عندما كانت شيزوكو آبي التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 18 ربيعا تسعى بخطى بطيئة للهرب من هيروشيما، كانت الجهة اليمنى من جسمها تحترق. ورغم بلوغها سن الـ 88 ما زالت شيزوكو تحمل آثار القنبلة على وجهها وكفيها.
ومضت للقول “أصبت بحروق بالغة في جبهتي اليمنى، كما احترق كفي اليسرى، وكانت النيران تقترب، فقيل لنا أن نلوذ بالأنهر والجداول ولذا القى كثيرون بأنفسهم في الماء. وكان النهر يغص بعدد هائل من الجثث بحيث لم اتمكن من رؤية الماء.”
ولكن رغم الأمل الذي كانت تشعر به، تمكنت شيزوكو من الوصول الى مستوصف طبي.
وقالت “لم يكن لدى المستوصف أي ضمادات للجروح، ولم يكن بوسع المصابين أن يفعلوا شيئا سوى القاء اجسادهم تحت السقف. ففعلت أنا ذلك أيضا. وكان المحيطون بي يصرخون، أماه الألم شديد، أبتاه الألم شديد.”
“وعندما توقفت عن سماع هذه الصرخات والتأوهات، علمت أنهم قد ماتوا.”
لم تكن مدينة هيروشيما هدفا عسكريا، ولم يستهدف طاقم قاذفة القنابل “اينولا غاي”، الذين القوا القنبلة، ميناء المدينة او منشآتها الصناعية.
كان هدفهم مركز المدينة، وكانت القنبلة مصممة لتنفجر على ارتفاع 500 متر من سطح الارض ليكون تأثيرها اقوى.
وفيما تمكن العديدون من النجاة من التفجير الأولي، كانوا محصورين في دورهم تحت الانقاض. ثم بدأت الحرائق بالاندلاع.
وتذكر السيدة آبي استغاثات المحصورين بينما ارتفعت السنة اللهب.
وقالت “كانت نداءات استغاثة يملؤها الحزن، وحتى بعد مضي 70 عاما، ما زلت اسمعهم يستغيثون.”
لم يتضح عدد الذين قضوا في ذلك اليوم، ولكن التقديرات تبدأ عن 70 الف – 80 بالمئة منهم من المدنيين.
واذا بحثتم في الانترنت عن (Hiroshima in colour) ستجدون اشرطة مصورة مثيرة يحتفظ بها الارشيف الوطني الامريكي.
فقد صور فريق عسكري امريكي وفريق ياباني اكثر من 20 ساعة من الاشرطة المصورة في آذار / مارس 1946. وتعتبر هذه الاشرطة السجل الاكثر اكتمالا وتفصيلا لما حدث بعد الهجوم الذري إذ احتوى على صور للحروق الفظيعة التي تسببت بها القنبلة وصور لاصابات لم تر في السابق.
“لا ينبغي التوجه بالشكر للقنبلة”
ومن الغرابة أن هذه الاشرطة لم تتح للجمهور حتى اواخر الثمانينات، إذ منعت الحكومة الامريكية ترويجها لأكثر من 30 عاما.
عوضا عن ذلك، روجت رواية ملطفة بين اوساط الامريكيين لضرب هيروشيما وناغاساكي تقول إن فتحا علميا عظيما قد جلب النصر السريع على العدو وانقذ آلاف الارواح من الجانبين.
وبعد مضي عقود، عندما زارت السيدة أوغورا العاصمة الامريكية واشنطن لحضور ازاحة الستار عن قاذفة القنابل “اينولا غاي” في متحف السميثسونيان، اصيبت بالدهشة لرواج هذه الصورة عن التاريخ حتى ذلك الحين.
وقالت “قال لي العديد من الامريكيين، مبروك إذ لم يكن بوسعك القدوم الى هنا الا بفضل القنبلة الذرية، فلولا القنبلة لكنت اجبرت على الانتحار (هارا كيري باليابانية).”
“هذا عذر قبيح. نحن لا نلوم الامريكيين، ولكن لا ينبغي عليهم أن يقولوا إن البشر تمكنوا من النجاة بفضل القنبلة الذرية.”
جيل من السرية
ترك ضرب هيروشيما وناغاساكي بالقنبلة الذرية ارثا آخر يفرقه عن سائر الفظائع الاخرى التي زخرت بها الحرب العالمية الثانية.
ففي الاسابيع القليلة التي تلت الضربتين الذريتين بدأ الاصحاء يموتون بمرض غريب وجديد. فاولا يفقدون الشهية ثم يصابون بحمى ثم تظهر على اجسادهم بقع حمراء غريبة الشكل. لم يعلم أحد أي شيء عن هذا المرض في وقته، ولكن هؤلاء كانوا مصابين بالتسمم الاشعاعي.
والى يومنا هذا، يحرص الكثير من الناجين على اخفاء ماضيهم خوفا من تعرض اسرهم للتمييز والاقصاء بسبب المخاوف من الاشعاع.
وتقول السيدة آبي “كنت مصابة بحروق جسيمة، وكان شكلي مشوها، ولم اتمكن من اخفاء اصابتي، لذا عانى اولادي من الاقصاء والتهميش والتمييز، وكان يطلق عليهم “أولاد القنبلة الذرية”.”
واغرورقت عيناها بالدموع عندما روت قصتها.
“كان اولادي يقولون لي إنهم يضطرون ان يعودوا الى البيت من المدرسة بطريق مختلفة كل يوم لأن الاطفال الآخرين كانوا يعتدون عليهم ويضايقونهم. كنت اشعر بالألم لمعاناتهم بسبب والدتهم، بسببي.”
وحتى يومنا هذا، يحرص البعض على اخفاء حقيقة كون جدة او جد لهم كان من الناجين، خشية ان يعجز ابناؤهم او بناتهم عن العثور على زوج او زوجة.
الثمن
يقال إن اولئك الذين يتقاعسون عن تعلم دروس التاريخ محكوم عليهم أن يعيدونه. فمن الصحيح ان ينتقد القادة اليابانيون لمحاولاتهم المتواصلة لمحو الجرائم التي اقترفتها بلادهم في الصين وكوريا وجنوب شرق آسيا.
كما انه من الصحيح ان القصف الجوي لغرض الترهيب لم تخترعه الولايات المتحدة، بل استخدمه النازيون في اسبانيا عام 1937 وفي بريطانيا عام 1940 وبعد ذلك.
وقصف اليابانيون مدينة تشونغتشينغ الصينية جوا لست سنوات، فيما أحرق البريطانيون مدينة درسدن الالمانية وغيرها.
ولكن الحقيقة الثابتة تقول إن لا حملة جوية اخرى في الحرب العالمية الثانية حصدت من الارواح بقدر ما حصد القصف الجوي الامريكي لليابان عام 1945. فقد قتل الامريكيون بين 300 و900 الف انسان في حملاتهم الجوية تلك.
وكما أجاد جمال مادوكس في التعبير عنه، كيف كان لأمة دخلت الحرب لانقاذ الحضارة الانسانية ان انهتها بذبح مئات الآلاف من المدنيين ؟
المصدر: بي بي سي