استقبل مسلمو فرنسا شهر رمضان الفضيل هذا العام بسلسلة هجمات وحوادث عنصرية تعرضت لها مساجد ودور عبادة في مختلف المدن الفرنسية، لعل في مقدمتها إطلاق نار من مجهول على مسجد قيد البناء في مدينة «كاربينترا» التابعة لمقاطعة «فوكلوز» جنوب فرنسا.
وعاينت الشرطة الفرنسية آثار الرصاصة التي اخترقت زجاج نافذة الطابق الأول من المسجد ليلا، بعد أن فتحت تحقيقا في الموضوع، لكنها لم تنجح حتى كتابة هذه السطور في تعقب الفاعل أو تحديد مواصفاته وسط مطالب من الجالية المسلمة في المدينة بضرورة وضع كاميرات مراقبة عند محيط المسجد لتفادي تكرار مثل هذه الحوادث العنصرية.
وكان المسجد السابق للمدينة قد تعرض لحوادث عنصرية مماثلة في السابق، حين اكتشف مسلمو المدينة على جدران مسجدهم رسم صلبان معقوفة وكتابة عبارات مسيئة للإسلام، وامتدت هذه الرسوم المعادية للإسلام على الواجهات الخارجية للمسجد على مدى 30 مترا.
وتعرض المسجد في مناسبة أخرى لهجوم من قبل شخصين ألقوا قنبلة يدوية الصنع على جانب الطريق أثناء تأدية الصلاة لم تصب أحدا من المصلين بأذى، ورغم التحقيقات التي باشرتها الشرطة بعد الحادث، لم تتحرك السلطات من أجل منع تكرار مثل هذه الحوادث العنصرية في ظل تزايد مشاعر كراهية الإسلام والمسلمين في البلاد وارتفاع وتيرة الاعتداءات ضدهم وضد دور عبادتهم.
وقبلها علق عنصريون مجهولون قطعة كبيرة من فخذ خنزير على أحد أسوار المسجد في خطوة استفزازية للجالية المسلمة في المدينة التي باتت تعاني الأمرين جراء ازدياد نفوذ اليمين المتطرف في البلاد، بينما ترفض محافظة الشرطة باستمرار تأمين المسجد من خلال وضع كاميرات مراقبة أو تخصيص فرق أمنية لضمان سلامة المصلين، علما أن الحكومة الفرنسية كانت قد اتخذت قرارا بحراسة دور العبادة في البلاد منذ الهجوم الدامي الذي استهدف صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة ومحل للأطعمة اليهودية بداية العام في باريس.
شكوى رسمية
وتقدم ممثلو الجالية المسلمة في المدينة والقائمون على المسجد من خلال جمعيتهم التي تحمل اسم «جمعية الصداقة والأخوة لمسلمي مدينة كتربينترا» بشكوى رسمية ضد مجهول لدى السلطات القضائية في «بروفنس ألب كوت دازير» مع توكيل محام لمتابعة القضية ومطالبة الأجهزة الأمنية باعتقال الجناة.
وفي بلدة «بارنيي سور سولكس» التابعة لمقاطعة «لامارن» في إقليم «شامباني آردن» شمال وسط فرنسا تعرض المصلى الوحيد في البلدة إلى إضرام نار بشكل متعمد من مجهولين تحت جنح الظلام، حيث أتى الحريق على كل محتويات المصلى من حصائر وكراسي ونسخ من القرآن الكريم.
وتمكنت فرق الإنقاذ التي وصلت إلى المصلى على عجل من إخماذ الحريق ومنع اندلاعه إلى باقي المباني السكنية المجاورة، بينما تمكنت فرقة الدرك الفرنسي التي حققت في الحادث من اعتقال خمسة أشخاص وتقديمهم في حالة اعتقال إلى محكمة محافظة «شالون أون شامبان».
وحسب اعترافات الجناة فقد كانوا جميعهم تحت تأثير الكحول حينما قرروا مهاجمة المصلى ليلا وإضرام النار فيه، أما الأسباب التي جعلتهم يقدمون على هذا الفعل بحسب اعترافات الجناة للمحققين فهو الإنتقام من شقيقة المواطن الجزائري سيد أحمد غلام المتهم بقتل شابة فرنسية في الضاحية الجنوبية لباريس، وبالتخطيط لتفجير كنيسة أو كنيستين، حيث زعموا أنها تقدم دروسا يومية في الدين واللغة العربية في المصلى ذاته.
تهديد مصلين
ولم تسلم مساجد العاصمة الفرنسية باريس من الاعتداءات العنصرية مع بداية شهر الصيام، حيث استهدف هجوم مسجد الدعوة في «بورت دو لافيلات» في الدائرة الباريسية الـ 19، وأضرم مجهولون النار فيه في وقت متأخر من الليل، ليتلف المبنى بالكامل، ويحترق معه مقر جمعية «شربة للجميع» التي تساعد المسلمين وغير المسلمين المحتاجين، وتقدم لهم وجبات إفطار مجانية طيلة أيام شهر رمضان.
كما تعرض مصلون في مسجد بمدينة ليون وسط فرنسا، إلى تهديدات بالسلاح الأبيض، وشتائم عنصرية من قبل عنصري ألقي القبض عليه بعدها، ورسم مجهولون كتابات ورموز عنصرية ونازية على جدران مسجد بمنطقة «أولورو» جنوب غربي فرنسا وأبوابه، صدمت مشاعر المصلين الذين يرتادونه من أهل المدينة، وكذا المناطق المجاورة التي يفتقر الكثير منها لأماكن عبادة وقاعات للصلاة.
وفي محاولة لتهدئة قلق المسلمين وطمأنتتهم ووسط هذا الجو المتوتر وجه وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف التهنئة للجالية الإسلامية في فرنسا بمناسبة حلول شهر رمضان متمنيًا لها السعادة والرخاء.
وأعرب كازنوف عن أمله في أن يكون الشهر الفضيل لحظات خشوع ومشاركة وتقاسم قيم تعزيز التآخي بين المواطنين الفرنسيين على اختلاف دياناتهم، مؤكدا أن مبدأ العلمانية يضمن للجميع حرية الاعتقاد من عدمه وممارسة الشعائر في ظروف لائقة وهادئة وفق تعبيره.
لا تفرقة بين الأديان
وأعلن الوزير الفرنسي أن قوات الأمن الفرنسية، تحمي نحو 800 مسجد عبر مختلف المناطق الفرنسية، مشيراً إلى أنه طلب من محافظي المدن، تنظيم لقاءات مع ممثلي الدين الإسلامي، لإيجاد صيغ يمكن بموجبها حماية المسلمين والأماكن التي يمارسون فيها عبادتهم، مؤكداً أنه لا يقوم بأي تفرقة بين الديانات الموجودة في فرنسا، بل يتعامل معها بعدالة ومساواة.
ودخل رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس على خط التهدئة حينما أعلن أن حكومته تعمل على أن يعيش جميع الفرنسيين في مجتمع موحد ومنفتح، رغم الاختلافات السياسية والعقائدية، مؤكداً أن «الجمهورية الفرنسية ستحمي جميع أبنائها مهما كانت معتقداتهم الدينية والسياسية، وستحمي المساجد من كل الأفعال المناهضة للمسلمين».
ودعا فالس، مسلمي فرنسا والجمعيات الدينية، بالسعي لمعالجة مشاكلهم بأنفسهم، مؤكداً أن الجمهورية الفرنسية «ستساعدهم وستدعمهم في هذا المسعى».
وبدأ مسلمو فرنسا الصوم هذا العام بشكل موحد بعد أن كان ممثلوهم قد اتفقوا على إنهاء التقليد المستمر منذ 1400 سنة والاستعانة بعلم الفلك الحديث لتحديد بداية شهر رمضان وغيره من المناسبات الإسلامية، من خلال استخدام الحسابات الفلكية لتحديد بداية الشهر بدلا من تحري هلال رمضان بالعين المجردة.
وعانى المسلمون في فرنسا على امتداد السنوات الماضية تبعات الخلافات والتنافرات بين ممثليهم، امتدت تبعاتها إلى شهر رمضان، حيث كانوا يختلفون في تحيد موعد بداية الصيام أو الأعياد الدينية خاصة عيد الفطر، ما تسبب في امتداد الخلافات إلى المساجد التي طالما انقسمت فيما بينها لدرجة تجديد موعدين مختلفين ليوم بدء الصيام وعيد الفطر.
اعتماد الحسابات الفلكية
وكان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية قد قرر سابقا اعتماد الحسابات الفلكية، حتى يستطيع المسلمون في فرنسا تنظيم جدول مواعيدهم مسبقا وقبل شهر رمضان بفترة كافية ليتوافق مع نمط الحياة في البلدان الأوروبية حيث يخطط الأفراد إجازاتهم ومواعيدهم ومناسباتهم قبلها بفترة طويلة، وهو ما أثار كثيرا من اللغط في أوساط المسلمين الفرنسيين أو الآخرين المقيمين في فرنسا.
وأثار قرار تغيير الطريقة المتبعة في استقصاء هلال الشهر بالعين المجردة الاستياء بين عدد كبير من المسلمين الذين رفضوا اتباع قرار المجلس الإسلامي الفرنسي وفضلوا الالتزام بقرارات مجالس الفتوى في بلدانهم الأصلية، قبل أن يقرروا هذا العام الخضوع له، خاصة وأنه يصادف ولأول مرة نفس موعد صوم البلدان العربية.
ويصوم المسلمون في فرنسا هذا العام قرابة 19 ساعة، وخلال السنتين المقبلتين ستصل ساعات الصيام إلى قرابة 21 ساعة، ما يجعل الفاصل بين الإفطار والصيام مجرد ثلاث ساعات فقط، وهو الأمر الذي يرى فيه بعض مسلمي فرنسا مشقة وعناء كبيرين.
ورغم أن الموضوع قديم لكنه يطرح نفسه دائما، والجديد هذا العام هو التوصية بتقليل ساعات الصيام، الأمر الذي يثير نقاشا فقهيا بين العلماء الذين ينقسمون بشأنه بين مؤيد ومعارض، وباحث عن مخرج يتقي به الشبهات بالسفر إلى بلده الأصلي خلال الشهر الفضيل رغم تزامنه مع اقتراب نهاية العام الدراسي.
ويطالب مؤيدو الفكرة بفتوى فقهية تقلل ساعات الصيام الطويلة التي ترهق الصائمين خاصة أولئك الذين يزاولون مهنا شاقة تقتضي الاستيقاظ باكرا والانتهاء منها مساء في ظل ارتفاع درجات الحرارة.
الجمع بين المغرب والعشاء
تقول فاطمة الودراسي وهي طالبة في جامعة «السوربون» في باريس انها تؤيد فكرة إصدار فتوى تقلل ساعات الصيام «الفتوى الفقهية باتت ملحة في أوروبا بلتقليل ساعات الصيام الطويلة، طاقة الإنسان لن تتحمل بدون شك صياما يمتد بين 19 و 22 ساعة، يعني تبقى ققط ساعتين أو ثلاث ساعات له من أجل العيش. الإسلام دين يسر وليس دين عسر، والله سبحانه وتعالى لم يجعل لنا في الدين من حرج، لذلك فإن الحل الفقهي موجود وعلى علماء الأمة التدخل لرفع الضرر عن الصائم خلال هذه الفترة التي تتميز فيها أوروبا بطول النهار».
وتضيف «في السويد مثلا هذه الأيام ستتعرض لظاهرة طبيعية تعيشها مرة كل عام وهي أن الشمس لا تغيب وتظل مشرقة 24 ساعة، ماذا سيفعل المسلمون هناك هل يصومون 24 ساعة كاملة؟ هل هذا معقول؟».
أما رشيد أشروي الذي يعارض صدور فتوى تقلل ساعات الصيام الطويلة في فرنسا فيبرر موقفه بالقول: «في حال صدور فتوى تقلل ساعات الصيام، فلن تحل المشكل وانما ستزيد إشكالا آخر، لأن الناس لن يجتمعوا عليها وانما سيتفرقون فريقين، وسيبقى الإرهاق والتعب وسينضاف إلى ذلك الفرقة بين المسلمين وكلنا يتذكر الفتوى الشهيرة بالجمع بين المغرب والعشاء عندما يتأخر وقت آذان العشاء وما أحدثته من بلبلة وفرقة وقلاقل ما زلنا ندفع ثمنها إلى يومنا هذا». ويمضي عدد متزايد من مسلمي فرنسا شهر رمضان في فرنسا وليس في بلدهم الأصلي هربا من الحر الشديد والأسعار المبالغ بها وقيود التقاليد، مقدمين موعد أجازاتهم بعد أن اختار بعضهم العودة إلى فرنسا قبل حلول شهر الصيام.
ورغم أن القانون الفرنسي يمنع إحصاء المواطنين على أسس دينية أو عرقية إلا أن مصالح وزارة الداخلية الفرنسية تقدر عدد المسلمين في البلاد بنحو ستة ملايين مسلم ومسلمة، بينما يشكك مختصون في الرقم ويقولون أن العدد الحقيقي يتجاوز الستة ملايين بكثير على اعتبار أن الإحصاء يقتصر فقط على المسلمين في وضعية قانونية ولا يشمل المهاجرين السريين.
كما تقدر السلطات عدد دور العبادة للمسلمين في عموم التراب الفرنسي بأكثر من ثلاثة آلاف بين مساجد ومصليات تعاني جميعها من ازدحام شديد نتيجة ضيق المساحة من جهة، ورفض كثير من البلديات منح تراخيص لجمعيات للجالية لبناء مساجد جديدة بسبب ضغوطات من اليمين المتطرف والخوف من فقدان أصوات بسبب ذلك خلال الانتخابات المحلية.
وكانت الحكومة الفرنسية في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي قد أصدرت قانونا يمنع أداء الصلاة في الشارع والحدائق العامة في محاولة للقضاء على ظاهرة الصفوف الطويلة التي تقام أمام المساجد في الطرقات العامة والأزقة والساحات العمومية والحدائق حين تفد أعداد كبيرة من المصلين لأداء فريضة الصلاة وتحجز مساحة المساجد عن استيعابها.
خنازير وصلبان وكتابات وحرائق ورموز نازية : مسلمو فرنسا يستقبلون رمضان على وقع اعتداءات عنصرية على مساجدهم
محمد واموسي