العميد فايز منصور
لمناسبة استشهاد مؤسس الكفاح المسلح بفلسطين
… ومن ولد بطلا لا يموت إلاّ بطلاً، ومن ولد جباناً لن يموت إلاّ جباناً، ويسخر من الجروح من لا يعرف الألم، ويعرف الميدان من كان في الميدان ومن يعرف الرجال يكون بين الرجال حين يعزّ الرجال.
على مسافة نحو عشرين كيلومتراً شرق العاصمة التونسية تونس، تقع منطقة حمام الشط. قرية هادئة وجميلة تطل على خليج تونس، ومنذ نهاية عام 1982 أصبحت مقر منظمة التحرير الفلسطينية العسكري والسياسي ومقر حكومتها في المنفى بعدما أجبرت المنظمة على ترك مقرها في بيروت عام 1982 حيث حاصرها الجيش «الإسرائيلي» وشن عليها حرباً مدمرة، فعرض الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة على الفلسطينيين هذه المنطقة لتكون ملاذاً لهم. شهد المكان الهادئ ليلة 16 نيسان 1988 تسلل فريق «كوماندوز» «إسرائيلي» واغتيال الرجل الثاني في فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية خليل إبراهيم محمود الوزير المعروف باسم «أبو جهاد»، على مسافة نحو 2500 كيلومتر من «إسرائيل».
مصير «أبو جهاد» تقرر لأسباب كثيرة، إذ وجد «الإسرائيليون» أنه يؤدي دوراً حرجاً في الانتفاضة الفلسطينية، فقد كان «مهندسها» و«منظرها»، ثم اكتشفت الاستخبارات «الإسرائيلية» أنه يوجه شخصياً العمليات في الضفة الغربية وغزة بإرسال نداءات تمر عبر دائرة اتصالات عالمية في جنيف وفي المدن الأوروبية الأخرى لإخفاء منشأ الاتصالات. كان «أبو جهاد» همزة الوصل بين قيادات المنظمة والانتفاضة، والمسؤول عما يحدث في الأرض المحتلة مدة 15 عاماً، وكان شبّان الانتفاضة يحترمونه، فقد قاتل ضد «إسرائيل» شخصياً، على عكس شخصيات الجناح السياسي الذين فاخروا ببطولات العمل الفدائي واعتلوا المناصب من دون جهد وخطر وملاحقة!
وفقاً لمعلومات الاستخبارات «الإسرائيلية» كان «أبو جهاد» يخطط للمرحلتين الثانية والثالثة من الثورة، أي إقامة حكومة فلسطينية في الظل في الأرض المحتلة، لتصبح الضفة الغربية وغزة في وضع يتعذر فيه حكمهما. ولد خليل الوزير عام 1936 وعام 1948 طردت أسرة «أبو جهاد» من رام الله ولجأت إلى غزة، حيث أكمل الوزير دراسته، ثم نزح إلى مصر وهو في العشرين من عمره والتحق بجامعة القاهرة، وهناك التقى ياسر عرفات عام 1959 ونشأت بينهما صداقة استمرت حتى فرق الموت بينهما. بعد تخرجه استقر في الكويت، واشتغل مدرساً.
«أبو جهاد» هو أول من قام بتشكيل الخلايا المسلحة في قطاع غزة منذ عام 1956 ثم انطلقت حركة فتح كتجمع وطني ثوري. وعام 1964 انتقل خليل الوزير إلى دمشق، وأصبح ضابط التشغيل والتفعيل ، وأخذ لقب «أبو جهاد». وكانت دمشق الحاضنة الأساسية لقيادة فتح العاصفة حيث المكاتب السرية والمعسكرات التدريبية في الهامة وحموريا وعين ترما وكانت سورية العامل الأساسي اللوجستي للعمل العسكري برعاية هيئة الأركان.
انتقل إلى الأردن حيث ساعد في إقامة «فتح» وساهم في نموها وازدهارها وتعظيم دورها. وبعد طرد المنظمة من الأردن عقب حوادث «أيلول الأسود» تولى «أبو جهاد» السيطرة العامة على تنظيماتها العسكرية والعمليات المسلحة، خاصة فرق المجموعات الخاصة ضد «إسرائيل» التي خطط لها «أبو جهاد» وأشرف على تنفيذها سنوات طويلة. فهو المسؤول عن عملية نسف خزان زوهر 1965 ، وعن نسف خط أنابيب المياه الرئيس 1965 ، وعمليات أخرى كثيرة نذكر منها:
– عملية فندق «سافواي» في «تل أبيب» التي قتل فيها 10 «إسرائيليين» عام 1975.
– اغتيال ألبرت ليفي كبير خبراء المتفجرات ومساعده في نابلس عام 1976.
– عملية «دلال المغربي» التي قتل فيها 137 «إسرائيلياً» عام 1978.
– محاولة قصف ميناء إيلات براجمات صواريخ ثقيلة محملة على ظهر سفينة تجارية عام 1979.
– عملية «الدبويا» التي أدت إلى سقوط ستة قتلى و16 جريحاً عام 1980 في منطقة الخليل.
– قصف المستوطنات «الإسرائيلية» في شمال فلسطين المحتلة عام 1981.
– أسر ثمانية من جنود الجيش «الإسرائيلي» أيام غزو لبنان في 4 أيلول 1982 والاحتفاظ بهم ومبادلتهم في طرابلس بإطلاق سراح جميع المعتقلين الفلسطينيين واللبنانيين، وكان عددهم خمسة آلاف.
– اقتحام مقر الحاكم العسكري «الإسرائيلي» في مدينة صور وتفجيره في 10 تشرين الثاني 198، وقتل 76 ضابطاً وجندياً من قوات الجيش «الإسرائيلي»، من بينهم 12 ضابطاً من ذوي المراكز الكبيرة.
– توجيه حرب الاستنزاف والعمليات الفلسطينية اللبنانية المشتركة ضد قوات الغزو بين عامي 1982 و1984.
– تصفية العديد من ضباط الموساد في الخارج حيث القواعد الارتكازية في أوروبا وشرق آسيا.
«أبو جهاد» هو الذي خطط ووجه لاقتحام وزارة الدفاع «الإسرائيلية»، حين انطلقت من الجزائر في 21 نيسان 1985 سفينة شحن تجارية كبيرة، تحمل 20 فدائياً انتحارياً، عدا طاقم السفينة، لإنزالهم أمام شواطئ «تل أبيب»، ثم التوجه بعد ذلك إلى مقر وزارة الدفاع «الإسرائيلية» في منطقة «الهاكرياه» وأسر كبار الضباط والعاملين في الوزارة بما فيهم إسحاق رابين نفسه الذي كان آنذاك وزيراً للدفاع، ورغم أن هذه العملية لم تنجح تماماً، إلا أنها كانت بالنسبة إلى القيادة «الإسرائيلية» ناقوس خطر مرعباً، وكانت تمثّل خرقاً لقواعد الصراع بين الطرفين التي تقضي بعدم المساس بقادة الصف الأول.
يضاف إلى هذا السجل النضالي الحافل دور «أبو جهاد» في قيادة الانتفاضة الشعبية التي انطلقت شرارتها على أرض فلسطين في 9 كانون الأول 1987. وبدءاً من يوم 20 من الشهر نفسه، بدأ أبطال الانتفاضة يتحركون طبقاً لبرنامج «أبو جهاد» الذي تألف من 10 نقاط، حدد فيها المناضل مهمات الانتفاضة وواجباتها على الصعيدين التنظيمي والسياسي، وبث بياناته إلى الأراضي المحتلة عبر إذاعة «صوت الثورة» من بغداد وعبر الصحف ووكالات الأنباء، وأجهزة الهاتف والفاكس، ووسائل الاتصال المتاحة كافة، فأدركت أجهزة الأمن «الإسرائيلية» مدى خطورة «أبو جهاد»، بعدما لمست تفاعل والتزام الانتفاضة ببرنامجه وتوجيهاته، وأجمعت التقارير الأمنية «الإسرائيلية» على أنه يسعى إلى تحويل الانتفاضة إلى استراتيجية حرب استنزاف طويلة.
أسطورة ديمونا
أنشئ مفاعل ديمونا في نهاية الخمسينات بمساعدة الخبرات الفرنسية، وأُنجز تماماً في عام 1963، فبدأت المعلومات تتسرب بدءاً من عام 1966 عن نجاح «إسرائيل» في تصنيع قنبلة ذرية، ويوماً تلو آخر كانت القصص والحكايات تكثر وتتضخم عن هذا المفاعل القابع تحت أرض مدينة ديمونا في صحراء النقب جنوب فلسطين، واتخذت الحكايات حول هذا المبنى المرعب شكل الأساطير، وكان الملف يتضخم على مكتب «أبو جهاد».
في ملف ديمونا اكتشف «أبو جهاد» أن مصر في عهد الزعيم جمال عبد الناصر أعدّت خطة هجومية حملت اسماً مرمّزاً هو «فجر» للهجوم على منطقة النقب «الإسرائيلي» وميناء إيلات لعزل منطقة الجنوب وتدمير المفاعل، وحشدت مصر قوات كبيرة لتنفيذ الخطة، تضم لواء مشاة، ولواء مشاة آخر مستقل، ومدفعية، ومدفعية ميدان، ومدرّع، وكتيبة هاون، وكتيبة مضادة للدبابات، وسرية مهندسين، وسرب من قاذفات اللهب، وسرية كيماوية، وقوات جوية مساعدة تقدر بقوة تسع طلعات سرب مقاتل قاذف، وطلعة سرب، وطلعة سرب قاذف خفيف، وقطع بحرية تضم لنشات صواريخ لتدمير مدفعية العدو الساحلية وقصف مستودعات الوقود ومنشآت الميناء، وكان مقرراً أن تستمر العملية مدة ثلاثة أيام، لكن الحوادث جرت على غير ما توقعت القيادة المصرية، فكانت حرب حزيران التي أجهضت كل شيء.
سجل «أبو جهاد» في ملف ديمونا أيضاً ما ذكره رابين من أن الرقابة الأميركية على المفاعل انتهت عام 1969، وسجل ما نشر في كانون الثاني 1976 حول تأكيد وكالة الاستخبارات امتلاك «إسرائيل» القنابل النووية منذ عام 1974، وأصبح الشك يقيناً في 5 تشرين الأول 1986، حين نشرت «الصنداي تايمز» على لسان الخبير النووي «الإسرائيلي» في مفاعل ديمونا موردخاي فانونو أن «إسرائيل» تملك نحو 200 قنبلة نووية، ودعم فانونو أقواله بالصور والوثائق، وأصبح الأمر خطيراً جداً لا مجال فيه للعبث أو المزاح.
بين 2000 ملف في حوزة «أبو جهاد» اختار ملف ديمونا، فهي بالنسبة إلى «إسرائيل» ليست هدفاً عسكرياً فحسب، ولا هي مجرد مفاعل نووي، بل هي سر أسرار الدولة العبرية، وخطها الأحمر، ورمز حصنها الحصين الذي لم يُخترق أبداً، وهي درة تاجها التي يزهو بها حكام آل صهيون وجميع يهود العالم…
اتخذ «أبو جهاد» قراراً خطيراً جداً، وكان هدفه صعباً إلى حد الاستحالة… فالهدف كان ديمونا.
مفاعل ديمونا في مكان تشبه تحصيناته أي تحصينات على وجه الكرة الأرضية، فغير مسموح حتى للطيور أن تحلّق في سمائه:
دائرة قطرها 50 كيلومتراً، محاطة بسياج أمنيّ.
أما مبنى المفاعل نفسه فمحصن بنائياً بالإسمنت المسلح المقاوم للقصف الجوي، وجميع أقسامه الفنية مقامة تحت الأرض بعمق ستّ طبقات كاملة.
سماء ديمونا كانت محروسة دائماً بشبكة محكمة من الرادارات الحديثة والدفاعات الأرضية الصاروخية والمدفعية، ومنصات صواريخ هوك، ومدافع الطائرات 40 مللم المضادة، ومدافع 30 مللم، فضلاً عن أسراب الطائرات الاعتراضية الجاهزة للانطلاق دائماً خلال ثوان من مطار ديمونا العسكري المتاخم للمفاعل، إلى جانب الطائرات التي تنطلق من ثلاثة مطارات أخرى حوله أنشأتها الولايات المتحدة لـ«إسرائيل» في صحراء النقب كنوع من التعويض أو الترضية لها بعد انسحابها من سيناء.
كذلك لا تخلو سماء ديمونا من طائرات الإنذار المبكر بعيدة المدى التي تطير في السماء مدة أربع ساعات كاملة، ويصل مدى كشف رادارها إلى نحو 360 كيلومتراً في مختلف الاتجاهات والارتفاعات.
أما على الأرض فيتوافر نظام آخر من شبكات الحواجز المعقدة، التي تضم منظومة من الرادارات تكشف حركة الأفراد والآليات، موزعة على نقاط ثابتة وأخرى متحركة لتغلق الدوائر المحيطة في ديمونا كافة، وتكشف حركة الأفراد أو الآليات المهاجمة. كذلك تتوافر أجهزة «الجيوفون» التي تلتقط الذبذبات الأرضية الناشئة عن سير الأفراد والآليات، إضافة إلى أجهزة «الشم» التي تسحب كميات من الهواء الجوي المحيط بالمفاعل، وتحللها كيميائياً بصورة مستمرة بهدف الكشف عن روائح جسم الإنسان وإفرازاته. وتضاف إلى ما سبق، أجهزة إنذار تعمل بالأشعة تحت الحمراء، وتلتقط التغيرات الحرارية حول منطقة المفاعل، والحرارة المنبعثة من جسم الإنسان أو من محرك أي آلية، وثمة حول المفاعل دائرة مغلقة من أجهزة الإنذار المغناطيسية التي تظهر لأجهزة المراقبة أي أسلحة أو مفرقعات.
تتوافر أيضاً شبكة الأسلاك الإلكترونية الدقيقة جداً، التي لا تراها العين مثل خيوط العنكبوت الدقيقة، لكن إذا اخترقها أي جسد تدق نواقيس الخطر في أجهزة الإنذار كافة، والأجهزة والشبكات المرتبطة بغرفة مركزية للتحكم والمراقبة والتحليل والإنذار.
المهرة الزرقاء
حدد «أبو جهاد» ديمونا هدفاً له، وهو يعلم الوسائل والأساليب الأمنية المحيطة به، ويعلم أن ما هو معلن قد يكون أقل بكثير مما هو غير معلن.
كانت ديمونا منطقة محرمة على الجميع، بما في ذلك كبار قادة الجيش «الإسرائيلي» وكبار ساستها، بل وكبار الحاخامات الذين تفتح أمامهم الأبواب كافة… إلا ديمونا كانت أبوابها موصدة أمام الجميع.
لم يعلن «أبو جهاد» في خطته عن استخدام طائرات أو صواريخ أو مدافع، بل اعتمد على ستة أفراد شجعان، ثلاثة سيدخلون إلى أعماق المفاعل مخترقين الحواجز الأسطورية، بمساعدة الثلاثة الآخرين.
كان الحصان المجنح الذي سيمتطيه الفرسان لاختراق ديمونا باص «فولفو» أزرق، يحمل كل صباح العاملين في المفاعل من مكان يتجمعون فيه في بئر سبع وينقلهم إلى منطقة المفاعل، ومن هناك تحملهم سيارات خاصة، فتنقل كل مجموعة إلى القسم الخاص بها مباشرة، بعد مرورها بنقاط تفتيش وحواجز أمنية متعددة.
كان على ضابط أمن كل باص أن يتأكد من ركابه يومياً، وعلى السائق ألا يتحرك إلاّ وأمامه سيارة جيب عسكرية تفتح الطريق وهو يشق صحراء النقب، فديمونا أغلى ثروة تملكها «إسرائيل»، ويتصور حكامها أن بقاء دولتهم مرتبط ببقائها.
كانت خطة «أبو جهاد» بسيطة، لكنها محكمة باتقان شديد، وكانت محفوفة بأخطار شديدة جداً، لكنها كانت الطريقة الوحيدة لدخول المفاعل من أشخاص غير مرغوب فيهم وممنوعين أصلاً من تخطي عتبة الوطن.
كانت المجموعة الفدائية مسلحة بثلاث بنادق رشاشة، واحدة من نوع كارل غوستاف مصرية الصنع، والأخريين من نوع كلاشينكوف، و30 قنبلة يدوية، وأربع خزن طلقات إضافية مع كل فدائي، إضافة إلى حقيبة تحتوي على بعض الذخيرة. اجتازت المجموعة الحدود الدولية والتفت على عشرات الحواجز الثابتة، وتفادت الاصطدام بسيارات الدورية «الإسرائيلية» رغم حالة التأهب والاستنفار والانتشار التي أعلنها الجيش «الإسرائيلي» منذ قيام الانتفاضة.
في تمام السادسة والدقيقة الخامسة والأربعين من صباح يوم الاثنين الواقع في 7 آذار 1988، تمكن الفدائيون من الوصول إلى الطريق المؤدي إلى ديمونا بعد رحلة شقاء قاسية في الصحراء. في ذلك التوقيت، قفز أحد الفدائيين على الطريق الأسفلتي وأعطى إشارة تعني أن السيارة العسكرية التي ترافق الباص في رحلته ظهرت، وفوراً ألقيت قنبلة يدوية أمامها وتمكن الفدائيون الثلاثة من السيطرة عليها.
جلس الفدائي عبد الله خلف مقود السيارة العسكرية من ماركة رينو، وإلى يمينه زميله محمد عبد القادر، وفي المقعد الخلفي جلس ثالثهم محمد الحنفي، وكان على المجموعة أن تسرع قدر استطاعتها لتصل إلى مفترق الطرق عند مثلث عرعر – ديمونا، في الوقت المحدد.
آخر حاجز للشرطة «الإسرائيلية» كان موجوداً عند هذا المثلث… المعلومات كافة كانت تؤكد أن الباص ينقل الخبراء والفنيين العاملين في مفاعل ديمونا النووي، ليتمهل قليلاً عند هذا الحاجز في تمام السابعة والنصف صباح كل يوم.
دخل عبد الله ومجموعته الفدائية بسيارتهم الرينو العسكرية في سباق مع الزمن كي يصلوا إلى مثلث عرعر – ديمونا في الوقت المحدد، وعندما كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف لاحت عن بعد «المهرة الزرقاء» التي ستكون سبيلهم للوصول إلى المفاعل… إنه الباص الأزرق الذي ينقل العاملين يومياً إلى المفاعل.
اقتحم الفدائيون حاجز عرعر وأطلقوا النار بغزارة على جنوده، ثم باغتوا الجميع بترجلهم من سيارتهم واندفاعهم إلى جانبي الطريق في انتظار اللحظة الحاسمة لمرور المهرة الزرقاء الجامحة.
في لحظة خروجهم إلى عرض الطريق لملاقاة الباص ظهرت فجأة شاحنة «إسرائيلية» حجبته خلفها، وحاول السائق دهس الفدائيين، لكن عبد الله أطلق عليه وابلاً من الرصاص، ما اضطره إلى التوقف حاجزاً الباص خلفه، وفي لحظات تمكن الفدائيون من ركوب الأخير والسيطرة عليه، وتحت تهديد السلاح شق طريقه باتجاه مفاعل ديمونا.
أبلغ جنود الحاجز قياداتهم بما حدث، فدقت أجراس الإنذار في مكاتب ومنازل وسيارات القيادات العسكرية والأمنية والسياسية في «إسرائيل»، فلم تمض دقائق حتى قامت القيامة في «إسرائيل»، فامتلأت سماء المنطقة بالمروحيات التي أسقطت مئات من المظليين المدججين بالسلاح والمدربين جيداً على التعامل مع مثل هذه المواقف، وعلى الأرض تلاحقت سيارات الجيش والشرطة وحرس الحدود، إضافة إلى سيارات الإسعاف والإطفاء… كانت الحشود تلاحق الباص الأزرق الذي وصل إلى مسافة سبعة كيلومترات فحسب من المفاعل النووي، وعند تلك النقطة كثف جنود الكوماندوز رصاص بنادقهم على إطاراته فتحوّل إلى جثة هامدة.
ها هي «المهرة الزرقاء» الجامحة ترقد الآن كفريسة كسيحة، تتحلق حولها قطعان الذئاب الشرسة، وتحوم فوقها الطائرات المروحية كالغربان الناعقة في سماء النقب الصامت وفراغ الصحراء المترامية… سبعة كيلومترات فحسب كانت تفصلنا عن المشهد الكبير… مشهد يوم القيامة.
بحسب الخطة التي وضعها «أبو جهاد»، كان مفترضاً أن يتم تقسيم جميع ركاب الباص ثلاث مجموعات، وكل فرد من الفدائيين الثلاثة يسيطر على مجموعة ويقودهم تحت تهديد السلاح كرهائن كي يدخلوا المفاعل.
لم ينقطع سيل التعزيزات العسكرية حول الباص، والطائرات المروحية يتزايد عددها وهي تحط على الأرض واحدة تلو أخرى، والمئات من ضباط وجنود الكوماندوز يلتفون حول الباص في حالة استعداد قصوى.
45 دقيقة من المفاوضات المتعثرة وضبط النفس، إلى أن وصل وزير الدفاع «الإسرائيلي» آنذاك إسحاق رابين، ورئيس هيئة الأركان دان شمرون، وقائد المنطقة الجنوبية إسحاق موردخاي.
طلب عبد الله عبد المجيد قائد العملية من داخل الباص عبر مكبر صوت لقاء مندوب الصليب الأحمر، ليطالبه بالإفراج عن المعتقلين من أول الانتفاضة، وكان عددهم آنذاك تسعة آلاف فلسطيني… كرر الفدائي مطلبه بإحضار مندوب الصليب الأحمر في إحدى المروحيات، وإلا سيضطر إلى تصفية الركاب.
قبل أن تنتهي المهلة انهمر رصاص القناصة من خارج الباص من كل اتجاه، وانفجرت المعركة غير المتكافئة بين ثلاثة أفراد وعدة كتائب من مختلف أسلحة الجيش «الإسرائيلي»، في هذه النقطة النائية المعزولة، على مسافة سبعة كيلومترات فحسب من المفاعل الأسطورة.
فرضت السلطات «الإسرائيلية» ستاراً مكثفاً من التعتيم حول تفاصيل عملية ديمونا، وطلبت إلى وسائل الإعلام التقيد بما يصدر عن الناطق الرسمي «الإسرائيلي»، وأعلنت المصادر الرسمية «الإسرائيلية» عن مقتل ثلاثة من الفنيين العاملين في المفاعل، عدا عدد من الجرحى.
بدوره، علق بيريز على الحدث قائلاً: «نواجه عدواً لم يعد يفرق بين أي شيء في الوسائل المتبعة، ومستعد للوصول إلى أي هدف إسرائيلي»، وتقرر أن يجتمع مجلس الحرب «الإسرائيلي» في اليوم نفسه.
تصفية «أبو جهاد» حصلت بعد الضوء الأميركي والعربي لدخول دهاليز المفاوضات.
أوقات الشام